بين أقراني لم أشبهْ إلّا نفسي. إنحدرتُ من سلالة العصافير.. أو لعلّ لعروقي امتدادا في شرايين الشجر!.
أحبّ الأشجارَ ولكنّ غرامي للعصافير.. شهوتي لغمامةٍ Continue reading
Category Archives: خواطر
إغواء التراب.
قلت لتلامذتي مرةً إن كلمة “الوطن” تدخل شيئا فشيئا معجمَ الكلماتِ الخطرة لتحتلّ بينها أسخف مقعد على الإطلاق. هذه كلمةٌ فارغةٌ وكذبةٌ مموّهةٌ تَشَارَكَ في اختراعها اثنان: ساعٍ إلى سلطة، وساعٍ إلى مصلحة. يجب أن نكفّ عن التسلية بعقول البسطاء وأن نلعبَ لعبة العنفوان والكبرياء. أولادُنا يجبُ أن يعرفوا الحقيقة فيعيشوها.
إعترض بعضُهم. إستهجن آخرون. عيونٌ قليلة برقت..
قال معترض: Continue reading
لا تبكوا عليّ
إلتقيتُ ناهية للمرةِ الأخيرةِ في فبراير شباط العام 2011 وكنتُ يومَها قد عدْتُ إلى لبنانَ إذ بلغني ارتحامُ عمّي شكري.
زيارتي الأخيرةُ لها كانتْ قبيلَ سفري، وكانتْ هيَ قد لازمَتِ الفراش. أدركتُ يومَها أنّ ما كُتبَ قد كُتب، وأنّ لا حيلةَ للطبّ في ما هي فيه. جهدتُ في حَبس دموعي عنها، وفي إبداء ثقتي بإمكانيّة شفائها.
قلتُ لها إنّنا نحبّها كثيراً، ونريدُها أنْ تبقى، أنْ تجاهدَ، وألّا تفقدَ ثقتَها بالله. كانَتْ الكلمةُ الأخيرةُ التي سمعتُها منها: وأنا أيضا أحبّكم كثيراً، وثقتي بالله كبيرةٌ، وها أنا أسلّمُ أمري إليه، مع إدراكي أنّ الكلمةَ الأخيرةَ لنْ تكونَ للموت… شعرتُ يومَها بالغصّة تأخذني. وكانتْ الدمعةُ التي حرقَتْ مني العينين والقلبَ معاً.
سافرتُ. في القلبِ حُرقة. في جسدِ ناهية تألّم. في روحِها تطهّر. في بيتِها أملٌ لم ينقطعْ، ورجاءٌ لم يغِبْ. سوسن تلازمُها. الياس يقاومُ الدمعةَ ويحثّ على الصلابةِ والإيمانِ ومواجهةِ ما كان يعرفُ أنه آتٍ. عبير وباسم يملّيانِ أنظارَهما منها ويتشبّعانِ برؤيتِها… ويدعوانِ لها…
ومضى ما يُقاربُ العام. بلغَني نبأ كنتُ أخشاهُ وأعرفُ أنّه آتٍ. ناهية في المشفى… قد تكونُ هذه ألأيامَ الأخيرة…
كانت فعلاً ألأيامُ الأخيرةُ… أيّامُ الشِّدّةِ… ألأكثرُ خوفاً، وقلقاً، وألماً، وأملاً، ورجاءً، ودعاءً، وصلاةً.
–
وكان مساءُ الثاني من فبراير. ردّدتْ ناهية في دقائقِها الأخيرةِ تسعَ مراتٍ ” طيّب يلا “.
ثمّ…
بعد المرّةِ التاسعة…
في أقلّ من ثانية…
غافلَتِ الموتَ، ونجَتْ بالروحِ، متنازلةً له عمّا ظنّ أنه هي…
وكانتْ منّي صرخةٌ.
أهَرمْتَ إلى هذا الحدّ يا الله؟ أهَرمْتَ فما عُدتَ تفرّقُ بين هذا وذاك، أو تميّزُ بين هذهِ وتلك؟
أهرمتَ يا الله أم تُراها قسوةُ عمر الشّباب؟
مغفرتَك إلهي! لا اعتراضَ ولا تجديفَ، لا شكّ بعدلِكَ ولا برحمتِك.
.
وجاءتني رحمةُ ربّي!
لمْ يتأخّر الجّواب!
وقفَتْ الى جانبي واحدةٌ من الملائكة. كانتْ من ذوي الأجنحة.. أميرةً في بني جنسِها.
قالتْ: أتحبّ أنْ تراها؟
أومأتُ أنْ نَعَم…
أعارَتني واحداً من جَناحَيها. أمسكَتْ بيدي. طارتْ بي – أو طِرْتُ بها. إجتَزْنا مداراتٍ وعبَرْنا أكواناً. مرَرْنا بكواكبَ وجاوَرْنا شموساً.
كلّ ذلكَ في ثوانٍ. أو ربّما في دهور.
بَلغْنا سفحَ جبل عظيم. في أسفلِه بابُ نفق كبير. ودّعتني أميرةُ الملائكة. قالتْ: تجدُها في آخر النّفق.
هممتُ بالدّخول. إستوقفَتْني مُجنّدةٌ من حرّاس النّفق. كانتْ من الجّنّ. أظنّها أميرةً في بني جنسِها.
قالتْ: لا دخولَ للأحياء. أقتلْكَ تمرّ.
قلتُ: افعلي.
فَعَلتْ.
دَخَلتُ.
أنا في النّفق. وحشةُ قبور ثقيلةٌ. رطوبةٌ خانقةٌ. ظلامٌ قاتلٌ. وجوهٌ أعرفُها وأخرى لا أعرفُها. كلّها على بشاعةٍ. بعضُها مَن غادرَ الأرضَ لتوّه. بعضُها مَن غادرَها قبلَ سنواتٍ، أو عقودٍ، أو حتّى قرون. ألكلّ يجهَدُ في العبور. القلّة تفلح.
كنتُ في عَجَلةٍ. سرّعتُ الخُطى لبلوغ آخر النّفق. لاحَ ليَ في الأفُق نورٌ ضئيل. سعَيتُ إليه. بلغتُهُ.
–
على عِلمٍ بمقدِمِي. تنتظرُني واقفةً، على الحدودِ، بين الحقيقةِ والخيال. تُجاورُها غزالةٌ ترعاها، ولبوةٌ تمشّطُ شَعْرَها.
لوّحَتْ لي من بعيد.
رأيتُها.
نورٌ مسكوبٌ على نور.
ثوبٌ حيكَ من نُسيماتٍ ربيعيةٍ زرقاء.
طرحةٌ نُسجَتْ من حُلم حمامةٍ بيضاء.
.
لوّحت لي ثانيةً.. إقتربتُ مبهوراً.. هممتُ بضمّها..
قالت: لم أمثُلْ أمامَ العرش.
قلتُ: يا لَروعةِ ما أنتِ فيه. سأبقى..
قالت: بل تعُدْ. ما أتيتَ لتبقى. شرعَ البنّاؤون في رفع عامود بيتك. لم يفرَغوا بعد.
عُدْ حاملاً كلمتي لأمي. قلْ لها ألّا تخشى السّفر. طريقُ الصّالحاتِ مفروشةٌ بالزّنبق. سأكونُ بانتظارها عند الباب.
طمئنْ والدي، قلْ لهُ إنّ ما سمعَه في الحُلم كان صحيحاً. ” أنا بخير. لا تبكوا عليّ. عينُكم على أولادي.”
سلامي لأبِ أولادي. بلّغه امتناني على رفقتِه لي في زمن السعادةِ والفرح، ورأفتِه بي في سنواتِ الألم والمعاناة. له شُكري على صلابتِه وصمودِه وجُهدِه وصُدقِه وعطفِه ومحبتِه ووفائِه.
حبّي لأولادي. وصيّتي ألّا يفرّطوا بالعهدِ، وأن يمضوا برعايةِ الربِّ فلا يعثَروا.
وأخوتي، لا تنسى أخوتي. قُلْ لهُمْ ألا يضيّعَ أحدٌ منهم علينا فرحةَ اللقاء. مشاهدُ النّفق مُرعبة. المكوثُ فيه مرّ وشاقٌ.
–
في طريق عودتي، عنّ لي أن أسوحَ في شِعَابِ النّفق. طِفْتُ في أرجائِه الشّاسعة. بحثتُ عن وجوهٍ بعينٍها. عثرتُ على بعضِها. تذكّرتُ ما كانتْ فيهِ وعليه. تفكّرتُ بما آلتْ إليه. رثيتُ لحالِها. دعوتُ لها. ومضيت…
على بابِ النّفق. استوقفَتْني أميرةُ الجنّ.
قالَتْ: أأنتَ ثانيةً؟ أما قتلتُك ودخلت؟
قلتُ: بل فعلتِ. ولكني،أنا…
نسيتُ أن أموت…
اللوعة الأولى
بدأ رحيلُ الأحبّة.
ناهية كانتِ اللّوعةَ الأولى. أخذَها الحنين. غلبَها شوقُ الغناءِ مع الملائكة.
فتحتِ البابَ ومضَت…
حزينٌ على الفِراق، ولو إنه فراقُ عيون.
فَرِحٌ من أجلِها.
فرحي جعلني أذوقُ بعضاً من هنائِها. وأهنأُ ببعضٍ من موت.
آلامُها طالت. أدمَت منّا القلبَ وفطرتِ الفؤاد.
رجوناها أن تبقى… أبَتْ…
كانت في عَطَشٍ. شاءت أن ترتوي. منَ الماءِ الذي لا خيبةَ فيه. منَ الينبوعِ الذي لا ينضب.
آلمتنا آلامُها. لمْ تكُنْ شهورَ تكفير عن ذنوب. كانت مُخادعةً للموتِ طالتْ. إلى أن خدعتهُ. شغلتْهُ بجسدٍ تَعِبٍ وتسلّلتْ بالرّوحِ إلى حيثُ لا تصلُ عينٌ ولا يبلغُ خيال.
بَكّرَت ناهية…
وإلى أن يأتيَني النداءُ، لن أتعبَ في الحديثِ معها…
وعنها…
المباركة
وحيثُ يكونُ أبو مسعود تكونُ المُبارَكةُ.
هي دوما في الجّوار.
أراها خلفَ الخِربة. تحتَ التّوتة. عينٌ على دجاجاتِها، وعينٌ على رفيق دربها. تخشى من دجاجاتها على مسكَبةِ البقدونس، وقد انتهت لتوّها من زرعها؛ وتخشى على أبي مسعود من حاجة يطلبُها فلا يجدُها. لعلّ شربةَ ماء تعنّ على نفسِهِ، زُلالاً، صافيةً، مبرّدةً في دويك الفخّار. هي تعرفُ أنهُ لا يستطيبُها إلا من يدِها، يدِ المُبارَكةِ التي منّ اللهُ عليه بها، فما بات ليلةً إلّا شاكراً راضياً، لا يرجو سوى إطالة عمرها، والسفر من تلة القراين قبلَها، إن دقّتِ الساعةُ، وحانَ وقتُ الرحيل.
لا زلتُ أرى أمَّ مسعود هناك، تروحُ وتجيءُ،خلفَ الخِربة، وأمامها. لقد اختمرَ عجينُها، فقرّصتهُ، وأقبلت إلى الصّاج تمسحُه، وإلى النّار توقدُها. هي ستشرعُ بعدَ قليل في مدّ فطاير الزّعتر والكشك، دون أن تنسى طلميّة القورما، وهي أفضلُ ما اشتهتهُ نفسُ أبي مسعود بعد يومِ الفلاحةِ المُضني….
في يحشوش
أنا في يحشوش. تلال القراين. المكانُ هذا أحببته في إطلالَتي الأولى. أتُراها كانت فعلاً إطلالَتي الأولى؟
أنا على التلّة العليا. إلى يميني الخِربةُ. والخِربةُ من الخراب. أعترضُ على التّسمية.
لا أراها خرابا.
بعضٌ من حجارتها تهاوَت. بعضُها لا زالت شامخةً حيّةً، وكأنما فقط لتحكي ألفَ حكايةٍ وحكايةٍ عن جبابرة عاشوا هنا.
مِغلاقُ بابها ترك على الصّخر ألفَ سرٍ وسر من حكايات أولئك الطّيّبين الخيّرين.
عتبةُ الدار إنْ حكتْ، سردَت أقاصيصَ عنْ رجالٍ تعملقوا. أثبتوا أن العزمَ ليس كلمةً في القاموس، وأن ذرّةَ الإيمانِ كفيلةٌ بنقل الجّبل من مكانٍ الى مكان.
قناطرُ شبابيكِها – على تواضعِها – تقولُ إنّ العبقريةَ ليسَتْ حَكْراً على حَمَلَةِ القَلمِ أو الريشَة أو القَيثَارةِ.
الخِربةُ ليسَت خَراباً.
هاكَ أهلُوها. أولئك الطّيّبون الأوّلون. أصحابُ صحوة ونخوة. ذوو ذمّة وهمّة. إذا قالوا فعلوا وإذا وعدوا وفَوا.
أراهم ولا أشكّ في ما أرى. هذا أبو مسعود بقامتِه المقدودةِ من صخور القراين. أسمعُ صوتَه الهادرَ تحت القبو وهو ينهَرُ ثورَه الأشقرَ، فينتظمُ تحتَ النيرِ، وتغرزُ السّكّةُ في الأرضِ على أحلى ما اشتهاهُ أبو مسعود من حال.
نسيماتي
نُسَيماتي نورانيّةٌ. هنئتُ بعُطرِها في مسالكِ حنيني إلى الفرحِ، كما فزعتُ إلى دفئِها في عواصفِ سِنيَّ الباردة.
نُسَيماتي غلّت إلى روحي، وعشّشت في كياني، فإذا انعتاقي من وطأةِ صليبي…
رجائي أنْ تكونَ نُسَيماتي طاقةً لكلِّ باحثٍ عن الغَلَبةِ على ترابِ هذا الوجود، ومَؤونةً لكلّ توّاقٍ لنصرٍ على ما يعادي البشريّةَ في ذاتِه.
رجائي أنْ تغزوَ نُسَيماتي كلَّ نفسٍ وثّابةٍ الى مِعراج النّعمةِ، فتشعلَ فيها ربيعاً عابقاً بأزاهيرِ الحقّ والخيرِ والجمالْ…