تحابّا وتآلفا. لم يباعد بينهما حسد أو بغضة، ولا فرّقهما كره أو غَيرة. ما اختلفا إلا في العقيدة، وما نكّد عليهما سوى إيمان الواحد وإلحاد الآخر. تحاججا طويلا في مسألة خلق الكون ووجود الله، فما وجد المؤمن في المحاججة سبيلا لإقناع صديقه بما ظنّه دوما في مصلحته؛ إلى أن شاء الله، فكان لقاءٌ بين الرجلين في مكتب عمل صديق الربّ، حيث وضع مجسّما Continue reading
Category Archives: خواطر
جان بول سارتر: وُلدتُ في الكتب
وُلد “جان بول سارتر” في الكتب. رضع منها طفلا. تغذّى منها ولدا، ثم يافعا. بدءا من شبابه وإلى كهولته أنجبها، وضمّنها تبشيره بالإلحاد وإنكار وجود الخالق.
ألمُه بدا واضحا في آخر حياته عندما أسرّ الى صديقه “بيني ليفي” بموقفه المتغيّر تجاه وجود الله، إذ قال له: ” أنا لا أشعر بأني نتاج للصدفة، ذرة تراب في الكون. أشعر بأني شخص كان منتظرا، ويتمّ تحضيره، وموضوع مسبقا. باختصار، كائن يستطيع الخالق فقط وضعه هنا، وهذه الفكرة عن اليد الصانعة تشير الى الله”.
ألمُ جان بول سارتر أنه قرأ كلّ الكتب في مكتبة عائلة والدته، حيث تربّى، ولكنّه لم يقرأ الكتاب.
حظّه العاثر يكمن في كَون هذه المكتبة لم تحوه بين كلّ ما حوته.
لو قُدّر لجان بول سارتر أن يقرأ الكتاب في صِغره لأهدت عبقريته البشرية كنزا لا يقدّر بثمن.
الماءُ الحيُّ
قطرة ماء وقعت على صحراء. حبة رمل وقعت في محيط.
كلاهما أحدث حركة.
كلاهما حمل رسالة.
نحتاج الى فهم لفهمها.
ألعطش؟
ألإرتواء؟
واحدة روت. واحدة ارتوت!
“أنا هو الماءُ الحيّ. من يشربُ منه فلن يعطشَ الى الأبد.”
قال.
كذّاب !
غالبا ما سألتك عن حالك لأطمئنّ إلى حالي. كثيرا ما هدفتُ الى التحقّق عمّا إذا كان جناك يزيد عن جناي!
وأنت! ألا تشبهني؟
هل تريدُ أن تكونَ صادقا؟
لن تقوَ وحدك !
هلمّ نتحابّ، نتقادس، نتجاهد، نتعاون، نتشارك، نتذاوب. انا وأنت. صادقَين.
بكلمة الله وروحه، لن نكونَ إلا واصلين.
الشيخوخة إن فاجأتك
تَرى الشّيخوخةَ وقد أدركتْ قاماتٍ أحببتَها. تتيقّنُ أنّ الفراقَ محتوم. تتهيّبُ الساعة.
تُحاولُ نفضَ غبارَ الأيّامِ عن رأسِكَ أوّلاً. لا تفلح.
عن رؤوسٍ تخشى أنْ تكونَ مضطراً لرؤيتِها تغيب. تُخفقُ أيضا.
تجولُ ببصرِكَ على أملاكٍ تظنّ أنها لك.
ببصيرتك على عشراتٍ مِمّن قالوا إنها لهُم. قبلك.
تتنبّهُ أخيراً إلى ما كنتَ غافلاً عنه.
تُدرّبُ قلبَكَ على السّير وراء الله.
تتمنّى لو تكونَ الرّحلةُ النهائيّةُ حجّاً إليهِ. تبرّكاً بوجههِ المُبارك.
يا لَفَرحي… لو تمّ ذلكَ لأحبّائي…
ولي …
—————
سمعتُ أحدَ كبارِ كبارِ المُستنيرين من آباء الكنيسة يقول: ” أعيشُ على رجاءِ امّحاءِ خطاياي وكسبِ الرّحمة الإلهية”.
ساءلتُ نفسي عن خطاياها.
قالتْ: يا لَبؤسِكَ. تحتاجُ إلى ألفِ ألفِ رجاء…
شمعتها لا زالت مضيئة في نفسي
كنا صغاراً. مِثلَنا كانتْ دُنيانا. طفوليةً. بريئةً. تشبهُنا.
كانت أعيادُنا لا تزالُ شموعاً نهوى مسحَ دموعها ولو حرقَت أيديَنا، وبخّوراً نصدّق أنّه يطردُ أشراراً قالوا لنا إن اسمَها الشياطين.
كنا صغاراً وكان دواؤنا نذوراً تلجأ إليها أمّنا، فتُفرحُنا، على أمل أن تكونَ بديلا عن إبَرِ خالي مخايل الغليظةِ، ووخزَاتِها المؤلمةِ.
كان قدّيسونا أصحابَ اختصاص وخِبرة. بينهم من يُحسِنُ مداواةَ آلام الظّهر، وغيرُه مَن بَرَعَ في شفاءِ أمراض الصّدر أو الرأس، وسواهما مَن يهتمّ بترميم ما يصيبُ العظمَ أو العينَ أو الأذنَ من خلل … وإن ننسى، لا ننسى البيطريين منهُم، فهؤلاء ذاع صيتُهُم بين الفلّاحين، فتَراهُم يلجأون إليهم كلّما زلّت قدمُ خروفٍ، أو حلّت نائبةٌ بعنزةٍ، أو تعثّرت ولادةُ بقرة.
”مار إذنا” كان يشفَعُ لآلام الأذنِ، وللمصادفة، كان مزارُه في المقلبِ الثاني المواجِه لبيتِنا، ولا يفصلُنا عنْه سوى وادٍ عميق، تتلاقى فيه سَواقٍ شتويّةٌ كثيرةٌ، فتتّحدُ لتَجريَ مجتمعةً وتؤلفّ مع غيرها مجرىً لنهر واحد اسمُه نهر الدامور.
لا أعرفُ مَن هو “مار إذنا”، ولا أعرفُ شيئا عن سيرتِه، كما لا أعرفُ ما إذا كان شخصيةً واقعيةً أو – وهذا ما أرجّحه – من نَسْج خَيال أهل القُرى المُحيطةِ بالمكانِ، والمُطلّةِ عليه.
ومن ذلك الزّمن الطّيب، لا زلتُ أحملُ ذكرى يوم كأنما وقعتْ أحداثُه وقتذاكَ، فقط، لتؤلمَني اليومَ، وقد جاوزتُ الستين، وباتَت مفكِّرَتي ذاكرةً وبناتُ أفكاري ذكريات. أصابني وقتذاكَ وجعٌ في الأذُنِ، ولا يخفى على أحدٍ ما يستدعيه وجعُ الأذن من صراخٍ إن ألمّ بصبيّ أشقى اللهُ به أماً، وكما لم يُشقِها بواحِد من إخوتِه أو من أخواتِه.
يومَها – وكان الزّمنُ صيفاً – تمكّن منّي الوجعُ وأخذَني الصراخُ، فرقّت قلوبُ أخوتي وأخواتي، وتحلّقوا – لا حيلة لهم – حول أمي المحتارةَ في طبابتي بين قطرةٍ من ماءِ الوردِ، أو لبخةٍ من خلّ العنبِ، وبين ضمّةٍ تتخلّلها قبلاتٌ في موضِع الألم، وتتبعها كلماتٌ من مثل ” تقبرني” و “سلامة قلبك” و ” ريتها أذني ولا أذنك”، أو ما شابهها من تعابيرَ غالباً ما تكونُ هيَ وسيلةَ الشّفاء المُثلى.
تحلّق أخوتي حول أمي، وما غاب منهُم إلا ناهية. غابَتْ بنتُ السابعةِ داخلَ الدّار، ولكنْ لتظهرَ بعدَ بُرهةٍ، وقدْ حملَتْ في يدِها شمعةً، أضاءَتها. ثمّ، بلمح البصر. أراها، تسرعُ إلى أقصى مكانٍ من الشُرفة. تضعُها فيه. وتنظرُ الى مزار “مار إذنا”، كأنّما ضارعةً، طالبةً الشفاعةَ لأذنِ أخٍ فطرتْ صرخاتُه قلبَها، فما وجدتْ من حيلةٍ تخفّفُ فيها عنْهُ سوى شمعتها وإيمانها ودُعائها .
والآن! بعدَ نصفِ قرنٍ ونيّف!
ها أنذا أضيءُ للغاليةِ في نُسيماتي شمعةً ورديّةً…
على رجاءِ ألّا ينطفئَ نورُها…
إلّا وقد حانَ وقتُ اللقاء!
نهر الدماء
حواء
قزمٌ بين أقزام
أصحو وأسكر ، ثم أنام..
لي الكلمات
أكرز فيها من العَبَرات..
ولي الذكريات
العاريات
تطفو على بحيرات
مسحورة
مسكونة
خالية
لا أحد
لا أحد…
تبكي وتضحك
على موجاتها، كلّ شتاء
في كلّ مساء
من الجنّ أميرات
ومن بني البشر
مومسات…
كلّ تفاح الأرض من جسد واحدة..
نمَتْ منه الرغبات
واحتدمت فيه الشهوات..
كانت، بلا شك، حمراء..
حمراء…
آه منك، وأسفي عليك
حواء…