إلتقيتُ ناهية للمرةِ الأخيرةِ في فبراير شباط العام 2011 وكنتُ يومَها قد عدْتُ إلى لبنانَ إذ بلغني ارتحامُ عمّي شكري.
زيارتي الأخيرةُ لها كانتْ قبيلَ سفري، وكانتْ هيَ قد لازمَتِ الفراش. أدركتُ يومَها أنّ ما كُتبَ قد كُتب، وأنّ لا حيلةَ للطبّ في ما هي فيه. جهدتُ في حَبس دموعي عنها، وفي إبداء ثقتي بإمكانيّة شفائها.
قلتُ لها إنّنا نحبّها كثيراً، ونريدُها أنْ تبقى، أنْ تجاهدَ، وألّا تفقدَ ثقتَها بالله. كانَتْ الكلمةُ الأخيرةُ التي سمعتُها منها: وأنا أيضا أحبّكم كثيراً، وثقتي بالله كبيرةٌ، وها أنا أسلّمُ أمري إليه، مع إدراكي أنّ الكلمةَ الأخيرةَ لنْ تكونَ للموت… شعرتُ يومَها بالغصّة تأخذني. وكانتْ الدمعةُ التي حرقَتْ مني العينين والقلبَ معاً.
سافرتُ. في القلبِ حُرقة. في جسدِ ناهية تألّم. في روحِها تطهّر. في بيتِها أملٌ لم ينقطعْ، ورجاءٌ لم يغِبْ. سوسن تلازمُها. الياس يقاومُ الدمعةَ ويحثّ على الصلابةِ والإيمانِ ومواجهةِ ما كان يعرفُ أنه آتٍ. عبير وباسم يملّيانِ أنظارَهما منها ويتشبّعانِ برؤيتِها… ويدعوانِ لها…
ومضى ما يُقاربُ العام. بلغَني نبأ كنتُ أخشاهُ وأعرفُ أنّه آتٍ. ناهية في المشفى… قد تكونُ هذه ألأيامَ الأخيرة…
كانت فعلاً ألأيامُ الأخيرةُ… أيّامُ الشِّدّةِ… ألأكثرُ خوفاً، وقلقاً، وألماً، وأملاً، ورجاءً، ودعاءً، وصلاةً.
–
وكان مساءُ الثاني من فبراير. ردّدتْ ناهية في دقائقِها الأخيرةِ تسعَ مراتٍ ” طيّب يلا “.
ثمّ…
بعد المرّةِ التاسعة…
في أقلّ من ثانية…
غافلَتِ الموتَ، ونجَتْ بالروحِ، متنازلةً له عمّا ظنّ أنه هي…
وكانتْ منّي صرخةٌ.
أهَرمْتَ إلى هذا الحدّ يا الله؟ أهَرمْتَ فما عُدتَ تفرّقُ بين هذا وذاك، أو تميّزُ بين هذهِ وتلك؟
أهرمتَ يا الله أم تُراها قسوةُ عمر الشّباب؟
مغفرتَك إلهي! لا اعتراضَ ولا تجديفَ، لا شكّ بعدلِكَ ولا برحمتِك.
.
وجاءتني رحمةُ ربّي!
لمْ يتأخّر الجّواب!
وقفَتْ الى جانبي واحدةٌ من الملائكة. كانتْ من ذوي الأجنحة.. أميرةً في بني جنسِها.
قالتْ: أتحبّ أنْ تراها؟
أومأتُ أنْ نَعَم…
أعارَتني واحداً من جَناحَيها. أمسكَتْ بيدي. طارتْ بي – أو طِرْتُ بها. إجتَزْنا مداراتٍ وعبَرْنا أكواناً. مرَرْنا بكواكبَ وجاوَرْنا شموساً.
كلّ ذلكَ في ثوانٍ. أو ربّما في دهور.
بَلغْنا سفحَ جبل عظيم. في أسفلِه بابُ نفق كبير. ودّعتني أميرةُ الملائكة. قالتْ: تجدُها في آخر النّفق.
هممتُ بالدّخول. إستوقفَتْني مُجنّدةٌ من حرّاس النّفق. كانتْ من الجّنّ. أظنّها أميرةً في بني جنسِها.
قالتْ: لا دخولَ للأحياء. أقتلْكَ تمرّ.
قلتُ: افعلي.
فَعَلتْ.
دَخَلتُ.
أنا في النّفق. وحشةُ قبور ثقيلةٌ. رطوبةٌ خانقةٌ. ظلامٌ قاتلٌ. وجوهٌ أعرفُها وأخرى لا أعرفُها. كلّها على بشاعةٍ. بعضُها مَن غادرَ الأرضَ لتوّه. بعضُها مَن غادرَها قبلَ سنواتٍ، أو عقودٍ، أو حتّى قرون. ألكلّ يجهَدُ في العبور. القلّة تفلح.
كنتُ في عَجَلةٍ. سرّعتُ الخُطى لبلوغ آخر النّفق. لاحَ ليَ في الأفُق نورٌ ضئيل. سعَيتُ إليه. بلغتُهُ.
–
على عِلمٍ بمقدِمِي. تنتظرُني واقفةً، على الحدودِ، بين الحقيقةِ والخيال. تُجاورُها غزالةٌ ترعاها، ولبوةٌ تمشّطُ شَعْرَها.
لوّحَتْ لي من بعيد.
رأيتُها.
نورٌ مسكوبٌ على نور.
ثوبٌ حيكَ من نُسيماتٍ ربيعيةٍ زرقاء.
طرحةٌ نُسجَتْ من حُلم حمامةٍ بيضاء.
.
لوّحت لي ثانيةً.. إقتربتُ مبهوراً.. هممتُ بضمّها..
قالت: لم أمثُلْ أمامَ العرش.
قلتُ: يا لَروعةِ ما أنتِ فيه. سأبقى..
قالت: بل تعُدْ. ما أتيتَ لتبقى. شرعَ البنّاؤون في رفع عامود بيتك. لم يفرَغوا بعد.
عُدْ حاملاً كلمتي لأمي. قلْ لها ألّا تخشى السّفر. طريقُ الصّالحاتِ مفروشةٌ بالزّنبق. سأكونُ بانتظارها عند الباب.
طمئنْ والدي، قلْ لهُ إنّ ما سمعَه في الحُلم كان صحيحاً. ” أنا بخير. لا تبكوا عليّ. عينُكم على أولادي.”
سلامي لأبِ أولادي. بلّغه امتناني على رفقتِه لي في زمن السعادةِ والفرح، ورأفتِه بي في سنواتِ الألم والمعاناة. له شُكري على صلابتِه وصمودِه وجُهدِه وصُدقِه وعطفِه ومحبتِه ووفائِه.
حبّي لأولادي. وصيّتي ألّا يفرّطوا بالعهدِ، وأن يمضوا برعايةِ الربِّ فلا يعثَروا.
وأخوتي، لا تنسى أخوتي. قُلْ لهُمْ ألا يضيّعَ أحدٌ منهم علينا فرحةَ اللقاء. مشاهدُ النّفق مُرعبة. المكوثُ فيه مرّ وشاقٌ.
–
في طريق عودتي، عنّ لي أن أسوحَ في شِعَابِ النّفق. طِفْتُ في أرجائِه الشّاسعة. بحثتُ عن وجوهٍ بعينٍها. عثرتُ على بعضِها. تذكّرتُ ما كانتْ فيهِ وعليه. تفكّرتُ بما آلتْ إليه. رثيتُ لحالِها. دعوتُ لها. ومضيت…
على بابِ النّفق. استوقفَتْني أميرةُ الجنّ.
قالَتْ: أأنتَ ثانيةً؟ أما قتلتُك ودخلت؟
قلتُ: بل فعلتِ. ولكني،أنا…
نسيتُ أن أموت…