ألسّلامُ لكم! تحية؟

كان التلامذة مجتمعين والأبواب مغلقة خوفا من اليهود. ظهر المعلم لهم وكان يوم أحد وهو اليوم الثامن بعد القيامة. قال :”ألسّلام لكم..”

ألسلام لكم! هل هي تحيّة؟
باعتقادي هي كذلك، في الظاهر. في الحقيقة هي أبعد من تحيّة وأعمق من سلام.

أعطاهم السّلام. وهبهم النعمة.
ألسّلام هنا يتداخل مع النعمة. ألنعمة التي أعطاها المسيح للتلاميذ ليفتحوا قلوبهم، ويكونوا على مقدرة التصالح مع الرب، والولوج الى عتبة العهد الجديد، واستقبال الجمال الحقيقي.
بهذا يؤهَّلون بدورهم لإعطاء النعمة أو السّلام. لا فرق.
ألسّلام لكم! فيها نعمة إزالة البشاعات من الذات اليابسة والقلوب الجافة.
هي أكثر من تحيّة..

حتى تتآلف القلوب وتتلاقى الوجوه، إعطاؤها السّلام.
مِمّن؟
من كلّ موهوب إياه.
كلّ بمقدوره إعطاء السّلام إن وُهِبَه.

إن وُهبتَ السلام فأنت يدُ الله.

وُهبتَه؟
هَبْه.
ألكلّ مُستحِقٌ له.

التواصل مع الذين ماتوا، معقول؟

ماتوا؟  لكم ارتحت لكلمة غابوا… لكم أنستُ بها…

يبقى الموت سرا كبيرا كما هي الحياة. التصالح معه لم يتمّ. تمّ مع القيامة. هذا يعني أن الموت يبقى عدوّا، ويبقى  آخر عدوّ يبطُل. الغلبة في المعركة معه لا تكون بتجاوزه، بل بالخروج من سردابه بعد الدخول إليه. ألدخول فعل محتوم لا مفرّ منه.

قناعتي أننا موتى عند دخولنا السرداب، أحياء عند خروجنا منه. في السرداب نحن في قبضة الموت. نصير غُيّابا عند تحرّرنا، إثر خروجنا …

مَن لا يخشَون نهاية الوجود الأرضيّ قلّة مُختارة. أو هي بالغة، واصلة، بفعل ممارستها الذاتيّة، ومجاهدتها الإختياريّة. ما نسمّيه النزاع يوجز فكرة التعلّق بالكيان الترابيّ واستصعاب الفراق إلى حدّ رفضه. هذا على أساس عدم فهمنا العميق لفكرة الحياة، واحتسابنا الذين غابوا عنا أمواتا لا لقاء لنا بهم، وجهلنا لكونهم – لاسيما إن كانوا قاماتٍ من نور –  يُسقطون علينا ثمارا سماويّة  لا ندرك غالبا في عتمة وجودنا مصدرَها.

بعد اكتمال مرحلة النزاع يكون الفراق. يكون الفراق بسقوط التراب كليّا من المُفارِق الراحل، فيُمسي نورا كاملا إن استحقّه واقتدر احتماله، وتكون بذلك استحالة تواصله مع الآخر الباقي في التراب.

باعتقادي، حالة التواصل المفقودة يمكن استعادتها بردم الهوّة بين المتحرّر من الترابيّة والحامل لأثقالها المشدود الى مغرياتها.

ردمُ الهوّة هذه فعلُ نضال لتخفيف وطأة الثقل الأرضيّ الترابيّ. هذا النضال هو مسؤوليّتنا نحن الترابيّين، المنتظرين، المتطلّعين إلى الرحمة، الراجين الخلاص والوصول إلى النور.

مَن انتقل إلى الرحمة – وبعد أن تذوّق حلاوة الإتصال بالنور، ونَعِمَ به، واستعاد الجمال الأول – لا يمكن له أن يعاود الحنين إلى التراب، وقد نجح في الخلاص منه. يستحيل عليه إذا أن يعاود الإتّصال بالكلمة، أو بالفكرة، مع من هو نزيل الوجود الأرضيّ الثقيل،  ولصيق الترابيّة القبيحة.

المسؤوليّة على الترابيّ الذي لا يزال عالقا في شراك هذا الوجود الأرضيّ إذا. عليه هو ممارسة فعل الجهاد المتواصل والتوق المتكامل والانسلاخ الإرادي عن حضن هذا العالم، فتخفّ َعنه قوّة التراب وجاذبيّته. يصير مُمَجّدا حتّى ولو إنه لا يزال في الجسد. يرتفعُ. يسمو. ينسكبُ الضياء عليه. نعم، ينسكبُ على جسده.  يصيرُ في منزلة علويّة تؤهّله لسماع العزيزَ الذي غاب،  أو لإسماعه.

بقناعتي هذه الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا التواصل مع الذين تحرّروا فغابوا، فتكونَ بيننا وبينهم مودّات، حتّى ولو إنهم باتوا في ضيافة الرحمن، بينما لا نزال ضيوف الأرض، لصيقي ترابها، نزلاء منازلها

صوتٌ وليس نداءً

كان النداء ورديا نديا
في ذلك الطفل الذي كنتُه.. أصاب قلبا طريا…
يتحرّى الطفل عن الصوت.. يتهجّى فيه نغماً.. شهيّا
يسألُ موجاتِ الأثير..
يلمحُه ساهرا في الفجر، في الأصيل
في عنفوان الخيل.. في الصهيل
في عين حمامة بيضاء.. في الهديل.
يلقاه..
يلقاهُ على الحدود.. ما بين البكاء والغناء..
بكاء الضعفاء
غناء الغرباء.
لا يسمعُ فيه ما ظنّه إيقاعا
ولا ما خاله إبداعا

Continue reading

الصوت الأول.. والأخير

عصر يوم من أيّام أيلول الماطره
في شارع من شوارع بيروت الفاخره
لأربعين سنة مضت
ناداني صوت
من على شرفة الطبقة الثانيه
لبيت راهبه…
.
كان في الصوت نعاس.. كنعاس الساهرين
وأجراس.. أجراس ميلادِ
تنادي…

Continue reading

رَبٌّ وشعبٌ وكتاب

وسلاحي يا أمّاه.. ما سلاحي؟

ريشةَ عصفور حييٍّ.. بنفسجيّ العين، مكسور الجناح

تستقي مِدادَها من جبيني.. من دمع دواتي

من قميص يوسفَ.. مصبوغا بلون حياتي

ولون حيواتي..

من شرايينَ مزّقها الذئبُ.. من جراحي..

من أكاليل الزهر..

من ماء البحرِ.. من حبل ذكرياتي

من لون قمري المكسورِ..

من حبي المهدور.. من دمي المُباحِ.

ريشة عصفور صديق.. ترسم، خارجَ كلّ المسافاتِ..

وفوقَ وبعدَ..

وفي ما يفوق، وما يسبق.. وما يتعدّى

كلّ الطقوس

وكلّ الدروس

وكلّ الدساتير والقوانين و النصوص..

ترسم بين النقاط والفواصل والسطور

قصّةَ شعبٍ بائسٍ مهزوم

يعيشُ بالشعارات

يموتُ لتحيا الزعامات

يفترشُ الطريقَ أمام السفارات..

ويسمّي هذا نصرا من الله.. وفخرا يدوم

إن هو حصل على  إذن مرور.

تخطّ بين النقاط والفواصل والسطور

حكايةَ شعبٍ بليّتُه الطوائفُ والعشائرُ والمذاهبُ.. والغرور

يتوكّل على رَبّ مُسِنّ غَضوبٍ.. يحبّ الإنتقام، َغيور

حاباهُ .. إستجدى رضاهْ ..

لا يكلّ..

لا يملّ من مدّ يديه.. لسماهْ

حرق له البخّور..

بنى له الكنائسَ

والجوامعَ..

نذر النذور..

وانزوى.. ينتظرُ الفرجَ من عُلاهْ.

قصةَ شعبٍ.. ألِفَ العيشَ في الحُفَر

بين اللحود والكفون…

ألِفَ العيشَ في القبور..

عبْرَ العصور..

وسْط الجماجم والنعوش.. والنقوش.. والصوَر

يهوى الطربَ والرقصَ.. ينتشي بالغناء..

يعبدُ الزعماء

يصفّقُ إن خطبوا.. لخطابهم

يفخرُ بقماش ثيابهم

يقوى بقواهم.. يسترُ فقرَه بغناهم

ويحتمي..

يحتمي بجلودهم من بردِ الشتاء.

يدعو.. هلمّوا، هُبّوا وصلّوا. إذا هُمُ اعتلّوا.. وهمْ منه براء

يفزع ويكبّر.. إن همْ عليه تكبّروا..

وتجبّروا..

يلطّم في رأسهِ

ويجرّحُ..

يبكي.. إذا ماتوا

يخشى من بعدِهِم على نفسهِ

من الذلّ من الهوانِ من الفناء..

يتبعُهم.. أعمى.. إلى الهاوية، إلى الفراغ، إلى الهباء، إلى الخِواء .

يأكلُ الرزّ بالخبزِ

ويعتزّ.. يعتزّ بما همْ فيه من العزِّ

ويسمّي هذا قَدَرا

وتقسيما من الربّ للرزق.. وهبةً منه.. وعطاء

وينسى..

وينسى أنّ ربّه مسنٌ هَرِمٌ.. وأنّ لا أملَ من أذنه الصَمّاء

وأنّ الإتّكالَ عليه هَراء..

وأنّ التوسّلَ إليه، والتسوّل على بابهِ لا يزيلُ البلاء…

هُبَّ يا شعبيَ المسكين هُبَّ..

أهتُكِ الحُجُبَ..

دعِ السماءَ للسماءْ

وافتحْ لنفسِك على الأرض دُرُبا..

كُفّ عن رفع الأيادي إلى الفضاءْ

عن التسلّي بنخرِ الأنوف وقتل الذباب..

والتسكّع في الملاهي..

والتمرّغ في التراب.

مزّق الأقنعةَ..

أزِلِ الحواجزَ.. فتّحِ الأبواب..

وانسَ..

إنسَ كلّ كلام عن ثَواب..

عن عِقاب..

هُبّ يا ساكنَ الوديان هُبّ..

إسأل السؤال..

إصعدِ الجبال..

إجتَزِ الهضاب.

هُبّ يا تابعَ الخصيان هُبّ..

حرّر الأحرار..

إتبع الأخيار..

نظّفِ الأثواب.

هُبّ يا عابدَ الأوثان هُبّ..

هُبّ يا سامعَ الأذان هُبّ..

واخترعْ..

إخترعْ لكَ من جديدِك ربّا..

ربّا يحرّضُك..

على  كسر القيود

وهدم السدود

وفتح الحدود

يحرّرك من قيد الحديد

ويعبُر بك..

من حياة العبيد

إلى سيادة العقل..

إلى عبادة الحرف، وتقديس الكتاب..

لكم دربكم ولي دربي.

[arabic-font]
لا تلوموني
فإنّي
لا أريدُ القتال..
ولا النزال.
لا أحبّ الحربَ..
ولا الضربَ..
وأخشى يا رفاقي صوتَ الغراب..
وأكرهُ نباحَ الكلاب..
ولكنّي.. لستُ بجبانِ…

أكرهُ ما تحملون من بواريدَ وحِراب..
إنّ ما أنتم عليه من فساد
وعناد..
وضلال..
وضياع في غياهب السراب..
لن يجلبَ – لكم ولنا – إلا الدماء والبكاء والخراب..

أتركوني يا رفاقي.. أهجروني..
إذهبوا وغباءكم عنّي..
فإني..
لستُ منكم..
لا أريد حربَكم..
دربي ليست دربَكم..
ولكنّي..
لست بخوّانِ.. ولا أنا بجبانِ…

.أنا لا أفهم لغة التحدّي ولا التشفّي ولا القصاص..
إصفحوا يا رفاقُ عنّي
فانّي
لا أملكُ من دنياي الا كلامي
وسلامي..

.لا تحدّثوني عن طوائفَ ولا عن خصام
ولا عن مذاهبَ.. ولا انتقام.
حدّثوني عن شتول الياسمين وبساتينِ العنب
عن أقمار.. عن أسفار.. عن ينابيع الذهب..
عن وئام..
عن تعايش..
عن سلام.. عن بحور مرجان
عن كلام.. عن سطور فنان
حشو بارودتي يا رفاق..
حشو بارودتي ريشةٌ وبعضُ ورقٍ وأقلامُ رصاص…

.ضاجعوا الكتابَ يا رفاقي..
واستقوا من دمائه.
جالسوه واسبحوا في فضائه.
إشحذوا السيوف..
سنّنوا الرماح..
شطّبوه.. جرّحوه..
وارتووا من جروحه
ثمّ، لا ترحموه..
لا تنثنوا عنه..
إلا..
وبكم روحان في جسد
روحُكم أنتم..
وقد انسكبت على روحه…

هويت زرعَ الحروف في العوالي..
والمعاني.. والدوالي..
على كل هواء..
في كل سماء..
فيا أيّها الرفاق
كسّروا السيوف كسّروا الحراب..
واهجروا أنفاق النفاق..
واعشقوا..
إعشقوا الكتاب ..
واقرأوا الكتاب..
وثقوا. ثقوا بما قاله لنا في الكتاب…

كانت قد كُتبت قبيل حرب الجبل العام 1983

[/arabic-font]

الوفاء

بين أقراني لم أشبهْ إلّا نفسي. إنحدرتُ من سلالة العصافير.. أو لعلّ لعروقي امتدادا في شرايين الشجر!.
أحبّ الأشجارَ ولكنّ غرامي للعصافير.. شهوتي لغمامةٍ Continue reading

إغواء التراب.

قلت لتلامذتي مرةً إن كلمة “الوطن” تدخل شيئا فشيئا معجمَ الكلماتِ الخطرة لتحتلّ بينها أسخف مقعد على الإطلاق. هذه كلمةٌ فارغةٌ وكذبةٌ مموّهةٌ تَشَارَكَ في اختراعها اثنان: ساعٍ إلى سلطة، وساعٍ إلى مصلحة. يجب أن نكفّ عن التسلية بعقول البسطاء وأن نلعبَ لعبة العنفوان والكبرياء. أولادُنا يجبُ أن يعرفوا الحقيقة فيعيشوها.
إعترض بعضُهم. إستهجن آخرون. عيونٌ قليلة برقت..
قال معترض: Continue reading

لا تبكوا عليّ

إلتقيتُ ناهية للمرةِ الأخيرةِ في فبراير شباط العام 2011 وكنتُ يومَها قد عدْتُ إلى لبنانَ إذ بلغني ارتحامُ عمّي شكري.

زيارتي الأخيرةُ لها كانتْ قبيلَ سفري، وكانتْ هيَ قد لازمَتِ الفراش. أدركتُ يومَها أنّ ما كُتبَ قد كُتب، وأنّ لا حيلةَ للطبّ في ما هي فيه. جهدتُ في حَبس دموعي عنها، وفي إبداء ثقتي بإمكانيّة شفائها.

قلتُ لها إنّنا نحبّها كثيراً، ونريدُها أنْ تبقى، أنْ تجاهدَ، وألّا تفقدَ ثقتَها بالله. كانَتْ الكلمةُ الأخيرةُ التي سمعتُها منها: وأنا أيضا أحبّكم كثيراً، وثقتي بالله كبيرةٌ، وها أنا أسلّمُ أمري إليه، مع إدراكي أنّ الكلمةَ الأخيرةَ لنْ تكونَ للموت… شعرتُ يومَها بالغصّة تأخذني. وكانتْ الدمعةُ التي حرقَتْ مني العينين والقلبَ معاً.

سافرتُ. في القلبِ حُرقة. في جسدِ ناهية تألّم. في روحِها تطهّر. في بيتِها أملٌ لم ينقطعْ، ورجاءٌ لم يغِبْ. سوسن تلازمُها. الياس يقاومُ الدمعةَ ويحثّ على الصلابةِ والإيمانِ ومواجهةِ ما كان يعرفُ أنه آتٍ. عبير وباسم يملّيانِ أنظارَهما منها ويتشبّعانِ برؤيتِها… ويدعوانِ لها…

ومضى ما يُقاربُ العام. بلغَني نبأ كنتُ أخشاهُ وأعرفُ أنّه آتٍ. ناهية في المشفى… قد تكونُ هذه ألأيامَ الأخيرة…

كانت فعلاً ألأيامُ الأخيرةُ… أيّامُ الشِّدّةِ… ألأكثرُ خوفاً، وقلقاً، وألماً، وأملاً، ورجاءً، ودعاءً، وصلاةً.

وكان مساءُ  الثاني من فبراير. ردّدتْ ناهية في دقائقِها الأخيرةِ تسعَ مراتٍ ” طيّب يلا “.

ثمّ…

بعد المرّةِ التاسعة…

في أقلّ من ثانية…

غافلَتِ الموتَ، ونجَتْ بالروحِ، متنازلةً له عمّا ظنّ أنه هي…

وكانتْ منّي صرخةٌ.

أهَرمْتَ إلى هذا الحدّ يا الله؟ أهَرمْتَ فما عُدتَ تفرّقُ بين هذا وذاك، أو تميّزُ بين هذهِ وتلك؟

أهرمتَ يا الله أم تُراها قسوةُ عمر الشّباب؟

مغفرتَك إلهي! لا اعتراضَ ولا تجديفَ، لا شكّ بعدلِكَ ولا برحمتِك.

.

وجاءتني رحمةُ ربّي!

لمْ يتأخّر الجّواب!

وقفَتْ الى جانبي واحدةٌ من الملائكة. كانتْ من ذوي الأجنحة.. أميرةً في بني جنسِها.

قالتْ: أتحبّ أنْ تراها؟

أومأتُ أنْ نَعَم…

أعارَتني واحداً من جَناحَيها. أمسكَتْ بيدي. طارتْ بي – أو طِرْتُ بها. إجتَزْنا مداراتٍ وعبَرْنا أكواناً. مرَرْنا بكواكبَ وجاوَرْنا شموساً.

كلّ ذلكَ في ثوانٍ. أو ربّما في دهور.

بَلغْنا سفحَ جبل عظيم. في أسفلِه بابُ نفق كبير. ودّعتني أميرةُ الملائكة. قالتْ: تجدُها في آخر النّفق.

هممتُ بالدّخول. إستوقفَتْني مُجنّدةٌ من حرّاس النّفق. كانتْ من الجّنّ. أظنّها أميرةً في بني جنسِها.

قالتْ: لا دخولَ للأحياء. أقتلْكَ تمرّ.

قلتُ: افعلي.

فَعَلتْ.

دَخَلتُ.

أنا في النّفق. وحشةُ قبور ثقيلةٌ. رطوبةٌ خانقةٌ. ظلامٌ قاتلٌ. وجوهٌ أعرفُها وأخرى لا أعرفُها. كلّها على بشاعةٍ. بعضُها مَن غادرَ الأرضَ لتوّه. بعضُها مَن غادرَها قبلَ سنواتٍ، أو عقودٍ، أو حتّى قرون. ألكلّ يجهَدُ في العبور. القلّة تفلح.

 كنتُ في عَجَلةٍ. سرّعتُ الخُطى لبلوغ آخر النّفق. لاحَ ليَ في الأفُق نورٌ ضئيل. سعَيتُ إليه. بلغتُهُ.

على عِلمٍ بمقدِمِي. تنتظرُني واقفةً، على الحدودِ، بين الحقيقةِ والخيال. تُجاورُها غزالةٌ ترعاها، ولبوةٌ تمشّطُ شَعْرَها.

لوّحَتْ لي من بعيد.

رأيتُها.

نورٌ مسكوبٌ على نور.

ثوبٌ حيكَ من نُسيماتٍ ربيعيةٍ زرقاء.

طرحةٌ نُسجَتْ من حُلم حمامةٍ بيضاء.

.

لوّحت لي ثانيةً.. إقتربتُ مبهوراً.. هممتُ بضمّها..

قالت: لم أمثُلْ أمامَ العرش.

قلتُ: يا لَروعةِ ما أنتِ فيه. سأبقى..

قالت: بل تعُدْ. ما أتيتَ لتبقى. شرعَ البنّاؤون في رفع عامود بيتك. لم يفرَغوا بعد.

عُدْ حاملاً كلمتي لأمي. قلْ لها ألّا تخشى السّفر. طريقُ الصّالحاتِ مفروشةٌ بالزّنبق. سأكونُ بانتظارها عند الباب.

طمئنْ والدي، قلْ لهُ إنّ ما سمعَه في الحُلم كان صحيحاً. ” أنا بخير. لا تبكوا عليّ. عينُكم على أولادي.”

سلامي لأبِ أولادي. بلّغه امتناني على رفقتِه لي في زمن السعادةِ والفرح، ورأفتِه بي في سنواتِ الألم والمعاناة. له شُكري على صلابتِه وصمودِه وجُهدِه وصُدقِه وعطفِه ومحبتِه ووفائِه.

حبّي لأولادي. وصيّتي ألّا يفرّطوا بالعهدِ، وأن يمضوا برعايةِ الربِّ فلا يعثَروا.

وأخوتي، لا تنسى أخوتي. قُلْ لهُمْ ألا يضيّعَ أحدٌ منهم علينا فرحةَ اللقاء. مشاهدُ النّفق مُرعبة. المكوثُ فيه مرّ وشاقٌ.

في طريق عودتي، عنّ لي أن أسوحَ في شِعَابِ النّفق. طِفْتُ في أرجائِه الشّاسعة. بحثتُ عن وجوهٍ بعينٍها. عثرتُ على بعضِها. تذكّرتُ ما كانتْ فيهِ وعليه. تفكّرتُ بما آلتْ إليه. رثيتُ لحالِها. دعوتُ لها. ومضيت…

على بابِ النّفق. استوقفَتْني أميرةُ الجنّ.

قالَتْ: أأنتَ ثانيةً؟ أما قتلتُك ودخلت؟

قلتُ: بل فعلتِ. ولكني،أنا…

نسيتُ أن أموت…

اللوعة الأولى

بدأ رحيلُ الأحبّة.

ناهية كانتِ اللّوعةَ الأولى. أخذَها الحنين. غلبَها شوقُ الغناءِ مع الملائكة.

فتحتِ البابَ ومضَت…

حزينٌ على الفِراق، ولو إنه فراقُ عيون.

فَرِحٌ من أجلِها.

فرحي جعلني أذوقُ بعضاً من هنائِها. وأهنأُ ببعضٍ من موت.

آلامُها طالت. أدمَت منّا القلبَ وفطرتِ الفؤاد.

رجوناها أن تبقى… أبَتْ…

كانت في عَطَشٍ. شاءت أن ترتوي. منَ الماءِ الذي لا خيبةَ فيه. منَ الينبوعِ الذي لا ينضب.

آلمتنا آلامُها. لمْ تكُنْ شهورَ تكفير عن ذنوب. كانت مُخادعةً للموتِ طالتْ. إلى أن خدعتهُ. شغلتْهُ بجسدٍ تَعِبٍ وتسلّلتْ بالرّوحِ إلى حيثُ لا تصلُ عينٌ ولا يبلغُ خيال.

بَكّرَت ناهية…

وإلى أن يأتيَني النداءُ، لن أتعبَ في الحديثِ معها…

وعنها…

المباركة

وحيثُ يكونُ أبو مسعود تكونُ المُبارَكةُ.

هي دوما في الجّوار.

أراها خلفَ الخِربة. تحتَ التّوتة. عينٌ على دجاجاتِها، وعينٌ على رفيق دربها. تخشى من دجاجاتها على مسكَبةِ البقدونس، وقد انتهت لتوّها من زرعها؛ وتخشى على أبي مسعود من حاجة يطلبُها فلا يجدُها. لعلّ شربةَ ماء تعنّ على نفسِهِ، زُلالاً، صافيةً، مبرّدةً في دويك الفخّار. هي تعرفُ أنهُ لا يستطيبُها إلا من يدِها، يدِ المُبارَكةِ التي منّ اللهُ عليه بها، فما بات ليلةً إلّا شاكراً راضياً، لا يرجو سوى إطالة عمرها، والسفر من تلة القراين قبلَها، إن دقّتِ الساعةُ، وحانَ وقتُ الرحيل.

لا زلتُ أرى أمَّ مسعود هناك، تروحُ وتجيءُ،خلفَ الخِربة، وأمامها. لقد اختمرَ عجينُها، فقرّصتهُ،  وأقبلت إلى الصّاج تمسحُه، وإلى النّار توقدُها. هي ستشرعُ بعدَ قليل في مدّ فطاير الزّعتر والكشك، دون أن تنسى طلميّة القورما، وهي أفضلُ ما اشتهتهُ نفسُ أبي مسعود بعد يومِ الفلاحةِ المُضني….

في يحشوش

أنا في يحشوش. تلال القراين. المكانُ هذا أحببته في إطلالَتي الأولى. أتُراها كانت فعلاً إطلالَتي الأولى؟

 أنا على التلّة العليا. إلى يميني الخِربةُ. والخِربةُ من الخراب. أعترضُ على التّسمية.

لا أراها خرابا.

 بعضٌ من حجارتها تهاوَت. بعضُها لا زالت شامخةً حيّةً، وكأنما فقط لتحكي ألفَ حكايةٍ وحكايةٍ عن جبابرة عاشوا هنا.

مِغلاقُ بابها ترك على الصّخر ألفَ سرٍ وسر من حكايات أولئك الطّيّبين الخيّرين.

عتبةُ الدار إنْ حكتْ، سردَت أقاصيصَ عنْ رجالٍ تعملقوا. أثبتوا أن العزمَ ليس كلمةً في القاموس، وأن ذرّةَ الإيمانِ كفيلةٌ بنقل الجّبل من مكانٍ الى مكان.

قناطرُ شبابيكِها – على تواضعِها – تقولُ إنّ العبقريةَ ليسَتْ حَكْراً على حَمَلَةِ القَلمِ أو الريشَة أو القَيثَارةِ.

الخِربةُ ليسَت خَراباً.

هاكَ أهلُوها. أولئك الطّيّبون الأوّلون. أصحابُ صحوة ونخوة. ذوو ذمّة وهمّة. إذا قالوا فعلوا وإذا وعدوا وفَوا.

أراهم ولا أشكّ في ما أرى. هذا أبو مسعود بقامتِه المقدودةِ من صخور القراين. أسمعُ صوتَه الهادرَ تحت القبو وهو ينهَرُ ثورَه الأشقرَ، فينتظمُ تحتَ النيرِ، وتغرزُ السّكّةُ في الأرضِ على أحلى ما اشتهاهُ أبو مسعود من حال.