لا أذكر، أنّني كنت في مرحلة من مراحل حياتي ملحدا، بالمعنى الوجوديّ للكلمة. هَوَسي بمؤلفات جان بول سارتر، وسواه من الوجوديّين، ظلّ جماليّا. أستطيع التأكيد، أنّ عبقريّة جان بول سارتر بقيت قاصرة، عن جذبي إلى اعتناق مذهبه، بخفاياه العدميّة .
لا أذكر، أنّني أنكرت وجود الله، في يوم من أيّامي الماضية؛ ولكنّ بحثي عنه كان دوما بحثا خارجيّا، عقليّا، مبنيّا على القبول بما هو مقنع، ورفض كلّ ما لا يتماشى كليّا مع الإدراك العقليّ. من هنا كانت قناعتي، بأنّ العودة إلى مملكة الربّ السماويّة، لا يمكن أن تتحقّق، إلّا بمجهود بشريّ فرديّ، قوامُه الجهاد الصوفيّ، وركيزتُه قهر الجسد وقمع شهواته الماديّة؛ دونما تدخّل أو عون آتٍ من فوق. قناعتي، كانت دوما، أنّ من هو فوق، يتواجد في حالة مراقبة نشاط المجاهدين للعودة إليه؛ وفي حالة انتظار بلوغهم القمّة المطلوبة، ليصيرَ بمقدوره استقبالهم في مجده!
حرصت دوما على رفض الطقوس الدينيّة لكلّ دين. هدفت إلى إثبات الوحدة الكليّة للأديان، في لبّها، ربطا بوحدة الوجود المُرضية للعقل، والمُشبعة نسبيّا لمتطلّبات العلم الموضوعيّة. شغفي بهذا التوجّه، مردّه، على ما أعتقد، إلى المعاناة الطويلة المتأتيّة من الخلافات المذهبيّة والدينيّة، وما تركته وتتركه من مآسٍ إنسانيّة رهيبة؛ كما إلى قناعتي باستحالة الجمع بين أديان، تحلّق كلّها في أجواء مبهمة، يغلّفها الخيال، ويجعلها، بتوجهها المتعصّب، وهميّة ومستحيلة. لم يكن بمقدوري التخيّل أن الله، وهو مصدر كلّ الأديان، يمكنه أن يرسلَ أنبياء، بتبليغات متناقضة. كنتُ على هذه العقيدة، ولا زلت. نقاط الخلاف بين الأديان، اعتبرتها على الدوام صنيعة البشر؛ وتحاشيت الخوض فيها، حتى لا تكون سببا في تعطيل نقاط الإتفاق، وهي كثيرة. كنت على هذا ، قناعة منّي، بأنّ كلّ الأديان السماويّة هي من مصدر إلهيّ واحد؛ ولا بدّ أن تكون واحدة في الجوهر.
السلوك الأخلاقيّ الفضائحيّ لبعض رجال الدين، فصلني قهرا عن الكنيسة؛ وفي نفس الوقت، حال دون تعمّقي في تفاصيل الكتاب المقدّس بكلّ أسراره وإيحاءاته، في عهديه القديم والحديث. أنا لم أهتمّ يوما، لمعرفة اسم والد ووالدة السيّدة العذراء. لم يعنِني التدقيق باسم ابن خليل الله ابراهيم؛ ابنه الّذي أمره الربّ بتقديمه ضحيّة على مذبحه؛ أهو إسحق أو اسماعيل. لم أجد مشكلة في الخلاف الكبير بين المسيحيّة والإسلام، حول مسألة صلب المسيح؛ أو رفعه وإحلال شبَه له على الصليب. لم تعنِني هذه الواقعة بشيء؛ وبلغ بي حماس المواءمة بين الديانتين حدّا، دفعني إلى دعوة المسيحيّين للتخلّي عن مسألة الصلب، والقبول بمبدأ الشبه، سعيّا إلى التخفيف من ويلات الخلاف التاريخيّ؛ والّذي سيكون على ما يبدو أبديّا. بلغ بي الحماس أنّي صرّحت بمعتقدي لدارس لاهوت مسيحيّ؛ مفتخرا بمعتقدي الدينيّ الليبراليّ التسامحي التوفيقي، متحجّجا بكون ما سنجنيه من تقارب بين الديانتين الكبريين، هو من الأهميّة بحيث أنّه يستحقّ التنازل عن سرّ الصلب في العقيدة المسيحيّة، والقبول بالترويج الاسلاميّ له: المسيح لم يُصلب، بل شُبِّه لصالبيه. هنا ما كان من اللاهوتيّ إلّا أن أجابني بكلمات مُرفقة بابتسامة معبّرة؛ حرصا منه على عدم إهانتي. قال : بهذه الحالة ستصير المسيحيّة فارغة تماما؛ فتتحوّل إلى نظام حياتيّ، قوامه بعض المبادئ الأخلاقيّة ليس أكثر .
دفعني هذا الإحراج إلى البحث والتدقيق في عمق الديانات. عرفت ما لم يعرفْه “فولتير”، واقتنعت بأكثر مما اقتنع به “جان بول سارتر” ولو متأخّرا، وأقرّيت بما لم تقرّ به “سيمون دي بوفوار” مطلقا. أدركت، ما كنت جاهلَه؛ فكانت بداية مرحلة معرفيّة وإيمانيّة جديدة، أتمنّى لو عرفها الكثيرون من الأحبّة.
ما اقتنعت به، آتي الى تفصيله في مواعيد قادمة…
إن شاء الربّ لنا ذلك…