أنا في ضيعتي، بين جَمهرة واسعة من أبنائها الأصليّين. يدور نقاش في مسألة الملكوت. ما تعنيه الكلمة، من حيث علاقتها بالحياة المسيحيّة الحقيقيّة.
أنا أنصت إلى كلّ ما يُقال. أفكّر مستمتعا بالحدث.
كاهن القرية الحاضر الأوّل في المشهد. هو الأَولى بالشرح والتفسير. نظريّا، لم يقصّر في عرض ما تعلّمه في مدرسة اللاهوت، لاجئا حينا الى الرمز، وحينا الى المثل. تحدّث عن وعد الربّ بالحياة الأبديّة للمؤمنين به. أسرف في عرض تصوّره للمكان الذي يعيش فيه الصالحون بعد الموت. حدّد موضعه في السماء الثانية. قتّر كثيرا في لفظ كلمة الحياة. أحصيت عدد المرات التي استعمل فيها المحترم كلمة الموت. أمات الحاضرين ثلاثا وثلاثين مرّة. لم يذكر الملكوت الأرضيّ الذي أراده السيّد الربّ مَدرجا إجباريّا للسماويّ.
سأله أحد اللمّاحين عمّا إذا كان الإيمان وحده كفيلا بضمان الحياة الأبديّة للإنسان المسيحيّ المُعتمِد والمُتناوِل جسدَ السيّد المسيح بحسب الأصول الكنسيّة. شدّد في سؤاله على العلاقة المُفترضة بين الحياة على الأرض والحياة في الملكوت، وكيف تكون هذه دُربَة على تلك، وصورةً ممهّدة لها. فهمتُ أنّه يتخابث في كلامه، ويلمّح الى خلافات المحترم مع شريحة واسعة من أبناء القرية على خلفيّة الإنتماء السياسيّ لحزبين سياسيّين متناحرين، وإلى تحيّزه العنيد لجهة ضدّ أخرى، وإلى تعميقه البُغضة بينهما. فطنت إلى أنّ السؤال يحمل في طيّاته وخزا لضمير المحترم على خلفيّة قول السيّد: “لا تعبدوا ربّين“.
المحترمُ حبّابٌ للتواضع، كرّاهٌ للكبرياء. أدرك مرمى السؤال، فالتفّ عليه بتشاطر غير خفيّ. تناسى كلمة السيّد: لتكن كلمتكم نعم نعم، و لا لا.
سأله آخر عمّن يلزم بيته ويُحجم عن حضور القدّاس لخلاف مستعصٍ بينه وبين الكاهن. إستفسر عن الجهة التي تحمل وِزر هذه البُغضة يوم القيامة. أيحملها هو ؟ أو يُسأل الكاهنُ عنها؟
سأله ثالث عن معاونيه ومعاوناته في القدّاس، وعن المتنافسات والمتناحرات على تقديم التراتيل. وعمّا إذا كانت لهم حظوة عند السيّد الربّ، أو لهنّ منزلة خاصّة وكرسيّ عن يمينه أو يساره..
إنتهى حُلمي. فتحت عينيّ قبل أن أسمعَ جوابَ المحترم المُحرَج. عجبت لقُدرةٍ وُهبتُها مكنّتني من البقاء في موقع الإصغاء. تيقّنت أنّ الربّ شاء ألّا يزيد في جراحي. أعتقني مِنْ سماع: “يا مَن أنت واعظا، لا تنسى أنّ السفينة لا تجري على اليبس”.