وهل تريدون أن تقبروا أولادَنا، حيثُ قبرتمونا؟

قادتني إلى هذه التأمّلات كلماتٌ قليلةٌ قرأتها منقولةً عن لسان وزير خارجيّة لبنان، اذ تحدّث في خطبة من سيل خطبه عن جينات تُميّزنا، نحن مسيحيّي لبنان، وتجعل منا مواطنين مختلفين. الجينات المميّزة هي اختصار للهوَس المَرَضيّ بفلسفة ال ” نحن ” وال ” أنتم “، وال” نحن ” وال ” هُم “.

عندما كتب مكيافيلي كتاب الأمير بدأ العالم يتغيّر. الحداثة في طور تكوّنها..
ثم جاء …” كيركيجارد ” وبعده ” هايداجر”.  حوّرا المعنى الحقيقيّ للوجوديّة. وكرّت السبحة إلى أن برز” سارتر ” فوضع يده عليها. استملكها، وأعطى نفسه مهمة إحيائيّة لها، بعد أن كانت أفكار فيلسوفي النازيّة  ” هايداجر” و ” كارل شميت ” قد رُدمت تحت ركام برلين..
” سارتر” إحتكر الوجوديّة بأفقها الضيّق، وجعل حدودها ما هو مرئيّ إنسانويّ متناغم مع الصداع الذي خلّفته في نفسه مآسي الحرب العالميّة الثانية.. هو ببساطة سطا عليها..
لو اقتنع ” سارتر ” بأنه روح في جسد، وليس جسدا فد يكون محتويا على روح. بأن إنسانه الداخليّ يجب ان يقود إنسانه الأرضيّ، لكانت الصورة اتخذت في بصيرته أبعادا هائلة، ولصارت الوجوديّة عنده شموليّة لامحدودة… ولأقنع ” سيمون دي بوفوار ” بهذه الحقيقة.. ولتبدّل مسار الحياة العصريّة ومصيرها.

أنا في الكون. في الوجود.  ولست، أنا على الأرض. أفق أوسع. أمل أكبر. رجاء أبدي لا حدود له.
حتى أفهم كلّ هذا المشهد، يجب البدء بكسر الجوزة والتدقيق بروعة ما تحتويه من تلافيف..!
يجب ادراك شموليّة الوجود وخلود إنساني الداخليّ، وبالتالي تقديمه وتسليطه، ليس فقط على الجسد بل على النفس أيضا.
ولإدراك ما يجب أن يُدرَك.. وجبت قراءة ما يجب أن يُقرَأ.. سيادتك ، إقرأ كتاب ” فرح ”  لكمال جنبلاط، ينفتح بوجهك قفيرالنحل العامل في وجدان إنسان الروح، وتتذوّق طعم العسل..!

إن ارتضيتَ تقبّل فكرة أنا والوجود، تبدو لك حماقة المتفلسفين الجدد الذين زوّروا معنى الفرح، وحوّروا جوهر السعادة،. صار الفرح معهم متعة جسديّة وصارت السعادة لذة ماديّة، وصار تذوّق طعم شجرة المعرفة مشتهى. النتيجة كانت إلغاء تاما لشجرة الحياة وإنكارا لوجودها، وهي على بعد رمية حجر من كلّ واحد منا.
فكرة أنا والوجود تسعفك في فهم جوهر الشرّ، فتكفّ النازيّة > كمثال عن سواها من الحركات وعلى رأسها الداعشيّة < تكفّ عن كونها حزبا سياسيّا، بل تصير تظهيرا للشرّ الذي زُرع منذ قرون. وتكفّ الحرب العالميّة الثانية عن كونها حدثا، بل تصير نتيجة حتميّة لحركة سياسيّة أسّس لها الوجوديون الجدد في فهم ميتافيزيقيّ خطير. تصير هي بذاتها تفصيلا صغيرا لم يأت من لامكان ومن لاسبب، لكنّها وُلدت من رحم قرون من التنظير الوجوديّ الزائف الذي تجذّر الى حدّ لم نعد نرى أصوله ولا جذوره، فكانت النتيجة الطبيعيّة والحتميّة لعقول مسكونة بالمكابرة وبهَوَس تميّز ال ” نحن ” عن ال ” هُم “. . هَوَس الجينات المتميّزة..!
وهنا وجب السؤال: هل وقع فعلا فيلسوف كبير مثل ” هيديجر ” او قانونيّ كبير مثل ” كارل شميت ” في فخ ” هتلر ” – كما يُشاع – ؟ أم الأصح أنّهما،هما، من نصبا لهتلر الفخّ؟ هل النازيّة بذاتها شرّ؟ أم تراها مثّلت الشرّ المرعب الذي تفجّر في لحظة مناسبة بعد أن نسجته ودبّرت له عقول المنظّرين لحداثة فلسفيّة سياسيّة أوروبيّة كانت فقط مجلبة للعار؟

البداية التي بدأها ” ميكيافيلي “، وانتقلت بمراحلها الثلاث الى الوريث ” هوبز “، ثم الى ” روسو ” وكانط، ثم الى ” نيتشه ” و” هيديجر “، كان لا يمكن أن تفضي إلّا إلى نهاية وخيمة، شهدها العالم في تجليات الحرب العالميّة الثانية. وكان لا يمكن، كحتميّة تاريخيّة لا مفرّ منها، إلّا أن تولّد فيلسوفا مأزوما اسمه ” جان بول سارتر “.

والآن..؟
السؤال المُحقّ الآن، هو عن تلك النهاية الوخيمة الأخرى التي سيشهدها العالَم كنتيجة حتميّة للنظام العالميّ الجديد الذي نشأ بعد الهتلريّة، ونما الى حدود العولمة التي نحن فيها اليوم…!

كان محقّا جدا البابا فرنسيس، هذا العقل الفاهم والعارف لحقيقة الكون والمصير. كان محقا عندما أصغى إلى الأصوات التي تعلو من الغرب والشرق في عصرنا هذا، فما سمع فيها إلّا صوت ” هتلر ” ينادي مواطنيه في العام 1934 الى التكتّل حول ال “نحن”  تحضيرا لقهر ال ” هم ” .
إنّ البابا فرنسيس يبدو قلقا. نحن أيضا وجب علينا أن نقلق.. هو قلِق على مصيرنا جميعا، وخائِف من الهاوية التي تنتظرنا، بفضل جنون قادة اليوم على المستويين العالميّ والمحليّ.

هذا الخليط من الشعبويّة الغيبيّة الدينيّة الطائفيّة المذهبيّة العائليّة العنصريّة الماليّة الظلاميّة العسكريّة التي تتخكم بمفاصل السياسة عندنا في لبنان والمنطقة تُقلق مَن لا يقلق، وتُخيف مَن لا يخاف.
الكلمة الإنتهازيّة السياديّة المُنغلقة المُنتجة للخطب المُشعّة سموما تنضح بها الثقوب السوداء، والمولّدة للشعارات الباطنيّة الغرائزيّة المجدية فقط لتجميع القطعان الغبيّة، كلّها تقودنا إلى حيث لا نريد وتخيفنا من هتلر يتحضّر في مكان ما،  ليخرج علينا من حيث لا ندري.
الرافعون لشعارات المسيحيّة والمدافعين عنها، ألا يفكرون للحظة بالسيّد المسيح ويدافعون عنه، أي عمّا من أجله فعل كلّ ما فعل؟
لندع القيَم الروحيّة الآن ونتحدّث في سواها..
عندنا، هذه الأدمغة الخطرة المتخفّية وراء ألقاب تجميليّة من مثل مستشارين او خبراء في السياسة، هؤلاء الذين يرسمون سياسات وينصحون الرؤساء باستراتيجيّات، جلّها موبوء طائفيّ عنصريّ خطير، هؤلاء الخطباء المفوّهون والقادة المشوّهون، مدنيّون أو دينيّون، مسيحيّون أو مسلمون، ألا تعنيهم القيم الإنسانيّة المسيحيّة والإسلاميّة بشيء؟ ألا تعنيهم سوى مصالح تيّاراتهم وأحزابهم ومراجعهم القريبة أو البعيدة؟
وبربكم يا ورثة دعاة الهويّات القاتلة ماذا تريدون؟
أتُراكم تريدون أن تقبروا أولادنا، حيث قبرتمونا؟ في قبر شمون؟