كيف بنت عمّك والولاد؟

لم أفهم معنى السؤال إذ سمعتُه للمرّة الأولى، وأنا دون العاشرة. فهمتُه لاحقا، ولا زالت حروفُه مزروعةً في أذني، وقد دقّّت سنواتي بابَ السبعين. ” كيف بنت عمّك والولاد؟ “. ببراعة أسلوب المَراقي العرفانيّة، كان والدي وعمّي وأصحابُهما من الأجاويد الموحّدين الدروز، يتخاطبون كلّما تلاقَوا في زيارة عائليّة، أو مصادفة في حقلة عين عزيمة، تحت كفرنبرخ.

كيف بنت عمّك والولاد؟
كنت أسمع هذه الكلمة، فأحتار فيها. أنا لم أعتد على سماعها في ضيعتنا وضمن بيئتنا التي تسرف في سماع القداديس، وتضنّ في صلواتها. وأكبر ظنّي أنّ عمّي ووالدي إنما اقتبساها من أصحابهما المشايخ المعمّمين، وقالا ما حلا لهما من قول لا زلت أذكره اليومَ، وأذكر أنّ ذلك الفتى كان يكتفي بالنظر إلى قائله، كما إلى كينونة قائمة بذاتها، وقد خُلقت لهدف واحد: أن تعرفَ فتنير.
سألت والدي مرة عن السرّ الذي حيّرني. قلت: كيف يسألك عمّي أبو علي عن بنت عمّك، وجدّي بشارة لا أخَ له ليكون لك عمّ وبنت عمّ ؟
ضحك والدي ولفّ كوفيّته، ثمّ قال: هو يقصدُ السؤالَ عن أمّك. إنّها طريقة يا إبني- ولم يقل طريقة كلام -، ثمّ زاد ما معناه: يكفي أن نقولَ عنها إنّها علامة ارتقاء، فيها ملامحُ المُثُل ولذّة دنيا الكمال. هذا معيارٌ قد يُحسنه مَن صاحبَ الأرض واشتمّ رائحة التراب، أكثر ممّا يُحسنه سواه.

فيضٌ غامرٌ من النبل. هي بنتُ عمّك. تكون رفيقةً بشيبة أبويك، بارّةً بهما. رفيقتك في طيب الحياة ومرّها. تحملُ معك عبئا، إن أثقلت عليك الأيّام. تشاركُك مشاركةَ بنت العمّ. وكلُّ ما سوى ذلك علاقة وحدويّة في الحقّ والقداسة، تُثمرُ، وتكون ثمارُها نسلا مباركا.

إفتقدنا اليومَ، في عهد حداثتنا المرّة، هذه التعابير. غيّرْنا المعايير. ألإنحدارُ طال مفاصلَنا وفكّكها..!
تمدّننا وصرنا جريئين. صُوَرحفلاتنا ومناسباتنا اختلفت. صارت جريئة. سؤالنا اختلف. صار أيضا جريئا.
مَرْتَك.. كلمة من قماشة مختلفة. المرأة التي لك.. بعض من أشيائك..من حوائجك.. لم تعد بنتَ عمّك. هي أيضا، أنصتت لتحريض  ” سيمون دي بوفوار “،  فحَسُنَ في عينيها، وما عاد يروق لها أن تكون بنت عمٍّ، على حلاوة هذه الصفة.

كَبُر بُعدُ هذا السؤال أكثر فأكثر في فكري، ومَلَكَ عليّ وجداني، عندما قرأت كمال جنبلاط، إذ كتب عن أدب العلاقة الجنسيّة بين الرجل والمرأة، وألمح إلى حُسن اختصارها بلقاء مقدّس واحد، يكون فقط عندما يتوافقان على إنجاب ولد..!
ثمّنتُ عندئذ هالة  السؤال الذي كنت أسمعه من أصحاب والدي من بني معروف الموحّدين. ثمّنتُها أكثر إذ قرأت حديث كمال جنبلاط وهو يروي عن مشايخ أجلاء، عاش الواحدُ منهم هذا النبلَ في حياته، متوافقا عليه بطيبة خاطر مع بنتِ عمّه، حتّى إذا تجاوزا الستّين، تخاويا. صار يناديها يا خيّتي، وتناديه يا خيّي.
وقعتُ على نفس الصورة في ما كتبتْه ماريا فالتورتا في رؤاها، نقلا عن الناصريّ، وبكلّ شفافيّة ووضوح: ألعلاقة للإثمار، وليس أكثر. ثمرتُها تكون حتما مباركة، للخير والبرّ .
صادفتُ في قراءاتي مطابَقة لما سبق في كتابات هندوسيّة. مبادئ سَمَت بالانسان وجعلته على تماسّ حيويّ ديناميّ مستمرّ مع قيَم الخير والحقّ والجمال..

كيف بنت عمّك والولاد؟
كلمة اختصرت حياة..! ضجّت بعبق الإيمان، وصرخت بطهر الإنسان، وأفشت سرّ التعفّف ولطفَ الترفّع.. وعلّمت..!
علّمت أنّ الإنسانَ هيكلُ الله، فلا يجوز له الدنس.
علّمت بهاءَ المواقف، ونصاعةَ المكارم، ونبلَ النوايا. بلمعة لمّاحة أنفَس من الذهب.
أولئك الطيّبون فارقونا. عمّي ووالدي، وجيران العزّ الموحّدون المُعَمّمون في عين عزيمة. نتذكّرُهم اليوم ونفتخرُ بأنّهم كانوا بيننا. وكانوا لنا..!
ألحنين إلى تلك الأيّام يجب ألّا يفارقَنا، نحن جيلَ عصر الأمل الذي اندثر، والحلم بوطن ضاع. لعلّنا نقوى على نقل هذا الروح إلى الجيل الوارث.. ولو بجهد وتعب..
لعلّنا.. فيسهُلَ عليهم ما صعُبَ علينا: صناعة وطن. وبغير هذا الروح لن يكون وطن.

أين هذه البشريّة التائهة اليوم من ذلك الرقيّ في القول والسلوك؟
ما أحوجَنا الى دُرَر تراثٍ ديست..!
أخذتنا مدنيّة العصر، وأنستنا أن نتحضّر..!