قلت لتلامذتي مرةً إن كلمة “الوطن” تدخل شيئا فشيئا معجمَ الكلماتِ الخطرة لتحتلّ بينها أسخف مقعد على الإطلاق. هذه كلمةٌ فارغةٌ وكذبةٌ مموّهةٌ تَشَارَكَ في اختراعها اثنان: ساعٍ إلى سلطة، وساعٍ إلى مصلحة. يجب أن نكفّ عن التسلية بعقول البسطاء وأن نلعبَ لعبة العنفوان والكبرياء. أولادُنا يجبُ أن يعرفوا الحقيقة فيعيشوها.
إعترض بعضُهم. إستهجن آخرون. عيونٌ قليلة برقت..
قال معترض: وماذا تقترح؟.
قلت: نمنعُ فوراً أفيون “الوطن” عن أنوف أولادنا، ونكفّ عن تخدير عقولهم به. نكفّ فوراً عن حشو أدمغة تلامذتنا بأباطيلَ لا فائدة منها. أباطيلُ ننتشي ونهتزّ سكارى إذا سمعنا عنها. أباطيلُ نسمّيها بطولاتٍ. نقولُ إنها التضحية بالنفس في سبيل الوطن، أو الإستشهاد ليحيا الأبناء. وندّعي إن الأوطان لا تحيا الا بالدماء، أو دماء الشهداء تسيّجُ الأوطان…
إعترضَ آخر: وما البديل؟.
قلتُ: نستبدلُ الوطنَ بالإنسان، والوطنيةَ بالإنسانية. نزرعُ حُبّ التراب في قلوبِ أولادنا. نشمّمُهم رائحتَه. .
نجعلُهم يستلذّونها.
ينتشون بها.
قال معترضٌ ثالث: هذا كلامٌ نظريّ لا فائدةَ عمليّة منه. ترابُ الوطن ستبقى له رائحةٌ أشذى وطعمٌ أحَبّ..
قال رابعٌ: لِنبقَ على الأرضِ يا أستاذ…
وخامسٌ: لا أحِبّ العيشَ بين الأحلام…
إفتخر سادس: بيتُنا في وطن الأرز… ماؤُه مشربُنا… هواؤُه ملوى صدورِنا… ترابُه ضمّ رفاةَ أجدادِنا…
وسابعٌ: وسيضمّنا…
وحدُها العيونُ الصافيةُ البارقةُ ظلّت ترمقُني بنظراتِ شفافةٍ هادئةٍ، وتقولُ زِدنا…
لم يشاركْ أحدٌ من الفريق الثالث في النقاش.
***
اليوم الثاني..
قالت فتاةٌ ذاتُ عينٍ بارقة: شممتُ رائحةَ التراب..
وقالَ رفيقٌ من فريقها: وجدتها عطرة..
وقالت ثالثةٌ: وجدتُ فيها إغواء..
ورابعٌ: وأنا إغراء..
وخامسٌ: على التوحّد.
وسواه وسواه: يجب ان ندرّبَ صغارَنا على الإنتعاش بها..
سألَ واحدٌ من مستهجني الأمس: على أمل ان يُدركوا أنها الرائحة ذاتها، في أرضنا كما في أرض سوانا؟
وثانٍ: يحبّون ترابها حبّهم لترابهم؟
وثالثٌ: ينقلُهم عِشقُ التراب الى عِشق الأرض، وعِشقُ الأرض إلى حُبّ ساكنيها.
وهتف رابعٌ: وينتقلُ الحبّ من واحدٍ الى آخر، وعدوى الإنسانية تعصفُ بكلّ النفوس…
وقلت: فلا يعودُ في الأرض لبنانيٌ وفلسطينيٌ وسوريٌ وصينيٌ وأميركي…
وقالت صاحبةُ العين البارقة: لا يعودُ فيها مسيحيّ وسنيّ وشيعيّ وعلويّ ودرزيّ ويهوديّ ومجوسيّ…
ورفيقتُها: ولا يعود فيها أبيض وأسود…
وأنشَدتْ كلُّ الألسنةِ ورنّمتْ كلُّ القلوب:
وعدوى الإنسانيةِ تعصِفُ بالنفوسْ..
ويقارعُ الكأسُ كلّ الكؤوسْ..
نذوّبُ المِدفعْ
في أحدِ المرفعْ..
ويصيرُ الدينُ حبّاً
والحبّ درباً..
وتفنى الحرب
ويلتقي الشرقُ والغربُ..
ويخرجُ المسيحْ
من باب الضريحْ..
ويخرجُ الشّيطانْ
من كلّ مكانْ..
من كلّ القلوبْ..
من كلّ الدروبْ..
.يتواجهانِ وقوفاً.. عابسَين..
يتعاتبانْ..
يتصالحانِ.. نادمَين..
يرميانِ السيفَ.. في لحظةِ ميلادِ القمرْ.
يتصافحانِ باكيَين..
.وتمرّ في أفكارهِما خيالاتٌ..وخرافاتٌ.. وصوَرْ.
وتغفو بيوتُ الأرضِ.. تحتَ كوماتِ الزّهَرْ..
ويصيرُ الدينُ حباً
والحُبّ درباً..
والمحبوبُ واحدٌ.. والميعادُ واحدٌ.. لكَ ولكِ ولي.. ولكلّ البشرْ……
.