أؤمن. أؤمن. أؤمن..! ( 2 )

[arabic-font]

ربّي. في عمق الوادي الذي أقيم فيه لا يغيب نورك.
الثقافة ذاتها التي ورّطتني. ربّي. هي التي أغاثتني.
عدت إلى قلبي. وجدتك. صفحات عالمي الجديد قرأتها. وفهمتها على ضوء نورك أنت.
ألثقافة التي تورّط، ربّي. هي تجير أيضا. هي أجارتني.
ألعقل هو ذاته الذي يوهم. هو ذاته يهدي. إن هو ارتضى عرفان ما أتَحتَ من سرّ سرّك العجيب، يا ربّي.
أنا ما أنقذني الإيمان. بل عرفان العقل هو الذي قادني إليك. هو الفهم أخذني إلى الإيمان بك، ربّي.
ومن خلال قولك أنت: أنا نور العالم.
ومن خلال قولك أيضا: أنتم نور العالم.
ومن خلال إدراكي لكون هذا النور هو الوعي المقدّس والفهم المقدّس. الذي حقّ أيضا تسميته الروح المقدّس.

أؤمن ربّي أنّ خروج آدم وحوّاء من جنّتهما كان ألمَك الأوّل.
وأنّ اللعنة التي أصيبت الأرض بها لم تُرفع عنها إلّا بارتفاع المخلّص.
فهمي يقول لي أنّ الشوك والحسك الذي جعلتَها تنبتُه لآدم هو ذاته الشوك الذي حمله على رأسه يوم الصليب. فأزال بفعلته اللعنة الأولى.. فهمي يقول لي هذا فأؤمن به..!
وبأنّ حوارك مع قايين يُظهر عمقَ ألمِك الثاني.
وبأنّ عودة أخنوخ البارّ إلى السماء رسالة وبرهان على أنّ الباب الضيّق ظلّ مفتوحا. وأنّ السماء بقيت متاحة. للأبرار.
وبأنّ نوح استحقّ ببرّه أن يكون الأب الثاني للبشريّة. هي التي ضلّت، فكان لا بدّ من بداية جديدة.
وبأنّ البِرَّ مفتاحُ مفاتيح الباب.

أؤمن أنّ صلاح نوح ميّزه عندك ربّي، ولقي في عينيك نعمة. فكان أبٌ ثانٍ للبشريّة.
وأنّه أنفق مئة وعشرين سنة من عمره يبني فُلكا في صحراء، ويدعو الناس إلى التوبة والمخافة، فما أصغى لكلامه واحدٌ منهم.
أؤمن بأنّه فلح في بناء الفُلك تحت ناظريك، وحمى فيه ذكرا وأنثى من كلّ حيّ يدبّ على الأرض، ما يزيد على الشهور الخمسة.
وأنّ الذين كانوا في الفلك ليسوا ثمانية فقط، كما هو مشاع، ولكنهم على الأصحّ تسعة. لأنّك كنت أنت مع نوح، ولم يدرِ بهذه الحقيقة من مرافقيه أحدٌ سواه.

أؤمن ربّي أنّ أيّوب ” كان كاملا ومستقيما، يتّقي الله ويحيد عن الشرّ “.
وأنّه وجد نعمة في عينيك.
وأنّك – على علّة برّه الذاتي وتَعظّمه –  أحببتَه.
أحببتَه لأنّ معطوبيّته قابلة للإصلاح. وأنت الصالح الأعظم. والطبيب الأبرع. وطرقك عجيبة..!
وأؤمن ربّي أنّ ألم أيّوب فتح بصيرته. وعلّمنا أنّ الألم ليس مجرّد عقاب على خطيئة.
وأنّك وضعت على لسانه رسائل تشي بأسرار، وتنبئ بالقادم من الأيّام.
وأنّك ضاعفت له في كلّ ما خسره.
وأنّك وهبته سبعة من الأبناء وثلاث من البنات تعويضا عن العشرة الذين فقدهم.
وأنّ في هذا العدد مضاعفة للأولاد أيضا، لأنّ أولاده الأوَل كانوا محفوظين له في السماء، حيث سينعم بعِشرة عشرين من الأولاد.

أؤمن ربّي أنّ برّ أبرام جعله مستحقا أن تُنعِم عليه باسم جديد هو ابراهيم. والذي معناه الأب الحنون لشعوب كثيرة. وأن تصير زوجته ساراي سارة. أي السيّدة ذات الشأن.
وأنّ فعلك مع ابراهيم بداية تحضير لشأن عظيم. وتدبيرك لخطة عجيبة.
أؤمن بكلّ ما فيّ من وجدان. وأصدّق بكلّ ما فيّ من فكر. أنك ظهرت لابراهيم في الجسد ربّي. نعم زرتَه بالجسد، تحضيرا وتمهيدا لتجسّد الكلمة في لحم ودم.
وأنّك شاركته مائدته. ووعدته بذريّة بعدد رمال البحر.
وأنّك وفيت – رغم كلّ خطاياه وحماقاته – فكانت ولادة ابن الوعد. ولو بعد ما يزيد على العشرين من السنين.
وأنّك تمهّلت طيلة هذه العشرين من السنوات ليكون الوليد ابن وعد الكهولة المباركة. لا إبن الشهوة..!
وأنّك طلبت ابنَه اسحق ليكون الذبيحة الأولى.
وأنّ السكّين الذي رفعه ابراهيم إلى عنق ابنه إسحق على جبل المريّا كان خطوة في طريق تحضير الفداء. وفي ذات الموضع الذي تمّ رفع ابنك ( آدم الثاني ) فيه على الصليب بعد ألفي عام. الجلجلة.
وأكاد أتقبّل فكرة أن يكون ذات الموضع الذي دُفن فيه آدم الأوّل.
وأنّه من الخطأ الفصل بين الحدثين. السكين رُفع على عنق ابن ابراهيم. والصليب رُفع وعليه مَن قلت أنت إنّه ابنُك الذي يجب أن يُسمَعَ له.. وفي نفس الموضع..!
وأنّك أردت ذاك ربّي، رمزا وإشارة لذا…
وأنّك أردت فيه تمهيدا ذهنيّا يسهّل، عليّ اليوم وعلى البشريّة التي لا زالت تئنّ، تقبّلَ فكرة الذبيح الأعظم. حمَلُك الذي حمل خطيئة العالم. ..!
عجيبة هي طرقك.. ربّي..!

أؤمن ربّي أنّك أنت من اخترت رَفقة لإسحق زوجة صالحة من بني عمومته.
وأنّك أنت مَن حرمه نعمة الأولاد ما يزيد عن العشرين من السنين. أيضا حتى يكون ابنه يعقوب ابن كهولة لوراثة الوعد، لا ثمرة شهوة شبابيّة مؤذية.
وأنّك أنت مَن كلّمت رَفقة في المنام. وأنبأتَها بأنّك أحببت يعقوب. ومقتت أخاه التوأم عَيسو.
وأنّك إنّما أبغضت عَيسو لأنّك عالِم بقادم أيّامه. بشهوانيّته. وجموحه. وتشبُّهِه بقايين. وزواجِه على غير رغبة والديه من نسل لوط المثمر من ابنتيه ومن بنت عمّه اسماعيل.
وأنّ كلّ هذا كان خطوة في مسيرة تدبيرك لخلاص ابنك الإنسان الذي هام في الضلال..!

أؤمن ربّي – وعقلي يثبّت الآن فهمي. وفهمي يثبّت إيماني – أنّك أنت من دبّر هروب يعقوب من أخيه عَيسو.
وأنّك فعلت هذا ليعاني. ويُظلَم. ويكافح. ويجاهد. وينتصر. وينكسر في نفسه. ويتذلّل. ويتخلّى عن حماقة آدم وتجبّره..!
وأنّك أنت من أريته السماء مفتوحة في الحلم.
وأنّك أنت من تجسّدت مرّة جديدة. وصارعته في الليل وخلعت حُقّ فخذه.
وأنّك أنت من غيّر اسمَه ليصير إسرائيل. لأنّه جاهد مع الله والناس وقدر.
وأنّك فعلت ما فعلت ليصير مثالا للتواضع والجهاد النفسيّ. فتسهُل عليه ملاقاةُ عَيسو متذلّلا منكسرا متخلّيا عن كبريائه.
وأنّك فعلت ما فعلت ليكون يعقوب مثالا لبني إسرائيل في التواضع. ومثالا لنا حتى يومنا، في الإنكسار، ونبذ إنسان آدم في دواخلنا..!

أؤمن ربّي – – وعقلي يثبّت الآن فهمي. وفهمي يثبّت إيماني – أنّ هجرة بني أسرائيل إلى مصر وجبت، وكذلك استعبادهم فيها طيلة قرون أربعة. ثمّ عودتهم بقيادة موسى معتوقين من العبوديّة ليعبروا البحر الأحمر في أعظم فعل من أفعالك العجيبة ربّي..
وأنّ يهوّذا ابن يعقوب هو الذي اقترح بيع أخيه يوسف للتجّار المصريّين. ولكنّ هذا كان لا بدّ أن يتمّ ويكون. بتدبير عجيب منك.
وأنّ فعلة يهوّذا غفرتها له كما غفرت فعلته المنحطّة الأخرى عندما أهان فراش أبيه. غفرت له وقدّمته على إخوته إلى حدّ أن سِبطه كان متقدما على بقيّة أسباط إسرائيل فجاء فيه داود وجاء منه أيضا مسيحك يسوع. أليس أنّ السماء تفرح بخاطئ عائد أكثر من فرحها بمئة بارّ. أننسى قولك هذا ربّي؟
غفرتَ ليهوّذا في أوّل غفران واضح بعد توبة صادقة إذ رجا أخاه يوسف – قبل أن يتعرّف عليه – أن يحتجزه هو عوضا عن أخيه بنيامين رأفة بشيبة والد أثقلت عليه السنون..
ويوسف هل يُنسى يوسف؟
حُلمه وحُلم فرعون. حِلمه وحكمته. أمانته وإيمانه. عفّته وثقته بقولك ” لا تخف أنا معك “. مسامحته لأخوته وبرّه بوالده. الرموز التي تكتنزها تفاصيل حياته للمخلّص.

أؤمن أنّ تدبيرك عجيب. ربّي..!
وأنّك ما زلت تتدبّر أمر عودة الإنسان إلى بيته، منذ اللحظة التي خرج منه باختياره، وهماً منه أنّ سعادته في تحرّره.
أؤمن ربّي بكلّ هذا..
وبكثير كثير سواه. ممّا سبقه. وممّا تلاه..!

[/arabic-font]