فالتورتا تتحدث عن صدق رؤاها وعن وجود الشخصيّات المعنيّة في غرفتها..!

[arabic-font]

أعود إلى هذا الفصل كلّما عاودني الشكّ بأنّ ما تكتبه ماريّا فالتورتا لا يعدو كونه نتاج فكر تخيّلَ فصوّرَ ونقل. أقرأ فأزداد ثقة بكون ما كُتب ليس إلّا الصدق، وما وُصف ليس إلّا الواقع.
07/05/1944

فالتورتا تقول:
أكتُب بحضور يسوع معلّمي. إنه هنا من أجلي، فقط من أجلي. لقد عاد بعد غياب طويل، فقط من أجلي. ستقولون: «ولكن كيف؟ لقد كنتِ ترين وتسمعين لمدة شهر تقريباً، فلماذا إذن تقولين أنه عاد من أجلكِ بعد غياب طويل؟» فأُجيب ما قلتُه مرّات كثيرة شفهيّاً وكتابيّاً.

هناك فرق بين أن أرى (الرؤى)، وأن أسمع (الإملاءات)، وهناك أختلاف بين أن أرى وأسمع من أجل الآخرين، وأن أرى وأسمع لنفسي، حصراً لنفسي.
في الحالة الأولى، أنا شاهِدة ومردِّدة لما أرى وأسمع، ولكن إذا كانت هذه الأشياء تمنحني الفرح فذلك أنّها على الدوام هي الأشياء التي تسبّب لكم فرحاً عظيماً. وهو في الحقيقة فرح خارجيّ. الكلمات تُعبِّر بشكل سيّئ عمّا أحسّ به تماماً. ولكنّني لا أعرف أن أُعبِّر بأحسن من ذلك. الخلاصة، أريد القول إنّ فرحي يشبه فرح من يقرأ كتاباً جميلاً أو يشاهد مسرحيّة جميلة، فيتأثّر بها ويتذوّقها ويُعجب للتناغم الذي فيها، ويفكّر: «كم هو جميل لو أكون مكان هذه الشخصيّة!».
في الحالة الثانية، عندما يكون الاستماع والرؤية لذاتي أنا، حينئذ تكون هذه الشخصيّة هي أنا. فالكلمة التي أسمع هي لي، والوجه الذي أرى هو لي. فالأمر هو أنّني أنا وهو. أنا ومريم. أنا ويوحنّا. أحياء حقيقيّون، واقعيّون، قريبون جدّاً. ليس قبالتي كما لو أنّني أشاهد فيلماً، إنّما بجانب سريري، يتنقّلون في الغرفة أو يستندون إلى المفروشات أو يجلسون أو يقفون كأشخاص أحياء، إنّهم ضيوفي. وهذا ما هو مختلف تماماً عن الرؤيا من أجل الجميع. فقصارى القول: كلّ هذا كان «لي أنا».

اليوم، وحتّى أمس منذ بعد الظهر، يسوع هنا، بثوبه العاديّ من النسيج الصوفيّ الأبيض، بياضه قريب من العاج، وهو مختلف تماماً بثقله ولونه، عن الثوب الناصع، وهو يبدو من كتّان غير مادّيّ شديد البياض لدرجة تحسبه معها مصنوعاً من خيوط النور التي تغطّيه في السماء. إنّه هنا بيديه الجميلتين، الطويلتين والنحيفتين، ببياض عاج قديم، بوجهه الوسيم الطويل والشاحب حيث تتألّق عيناه المهيمِنتان والعذبتان وكأنّهما من السفير الداكن بين حاجبين كثيفين بلون الكستناء المشعّ بالأشقر الأصهب. إنّه هنا بشعره الجميل الطويل الأشقر والناعم، الأكثر حيويّة في الأجزاء المضاءة والأكثر تعتيماً في أعماق الطيّات. إنّه هنا! إنّه هنا! يبتسم لي وينظر إليّ أكتُب عنه، كما كان يفعل في فياريجيو Viareggio( مكان سكن فالتورتا السابق ).. وكما لم يفعل منذ الأسبوع العظيم المقدّس، مسبّباً لي كلّ هذا الحزن الذي أصبَحَ حرارة مرتفعة، وحتّى شبه يأس عندما أضيف إلى الألم الذي انتابني لكوني حُرِمتُ منه، ألم حرماني من العيش على الأقلّ حيث رأيتُه واستطعتُ القول: «هنا استَنَد، وهنا انحنى ليضع يده على رأسي.» وهنا حيث توفّي أهلي.
آه! من لم يختبر ذلك لا يستطيع إدراكه! لا، ما من سبب يدعو للمطالبة بالاستمتاع بكلّ هذه الهبات. إنّنا نَعلَم جيّداً أنّها هبات مجّانيّة، لا نستحقّها ولا نستطيع المطالبة باستمراريّتها عندما توهَب لنا. نعرف ذلك جيّداً. وكلّما أُعطيَت لنا كلّما تلاشينا في التواضع، عارفين بؤسنا الـمُنَفِّر في مقابل الجمال اللامتناهي والغنى الإلهيّ الذي يهبنا ذاته.

 يجب أن أقول ذلك. لقد تألّمتُ، وأتألّم الآن أكثر لموت أمّي الذي مضى عليه ثمانية أشهر، ولم أشعر حينذاك بألم مثله. هذا لأنّني في الشهرين الأخيرين كنتُ بدون يسوع، دون مريم، وحتّى الآن يكفي أن يتركاني لحظة حتّى أشعُر أكثر من أيّ وقت مضى بحزني كيتيمة مريضة، وأعود لأغرق في الألم البشريّ الـمُرّ لهذه الأيّام غير البشريّة.

أكتُب تحت أنظار يسوع، إذاً فأنا لا أُبالغ ولا أُغالط. هذا في الأصل ليس أسلوبي. ولكن حتّى ولو كان ذلك أسلوبي، فسيستحيل أن أفعل ذلك تحت هذا النَّظَر. كتبتُ هذا في هذا المكان حيث لا عادة لأن أفعل، إذ بالنسبة لرؤى مريم فأنا لا أقاطعها بإظهار ذاتي المسكينة. إنّني أعرف مسبقاً أنّه يتوجب عليّ متابعة إظهار أمجادها. أَفَلَم تكن أمومتها في كلّ الأحيان إكليل مجد؟ أنا مريضة جدّاً والكتابة تُسبّب لي متاعب جَمّة. إنّني كتلة أشلاء بشريّة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالتعريف بها لتصبح محبوبة أكثر، فأنا لا ألوي على شيء. أأشعُر بألم في كتفي؟ أيضعُف قلبي؟ أيؤلمني رأسي؟ أترتفع حرارتي؟ لا يهمّ! فلتكن مريم معروفة، كلّية الجمال والحنان، كما أراها بصلاح الله وصلاحها، وهذا يكفيني.

أنشودة الإنسان الإله. فالتورتا / 1 – 49.

[/arabic-font]