رجالٌ عَمْلَقْتُهُمْ..!

[arabic-font]

في ما مضى من أيّام، كان بحثي عن الحقيقة يقودُني غالبا إلى الوجوديّين، ظاناً أنّهم امتلكوا حلّا عقلانيّا لضياع الإنسان في أوهام دينيّة ماورائيّة، ليست في الواقع سوى خوارق خرافيّة. إنتبهتُ في ما بعد إلى حقيقة انبهاري بمقدرة سرديّة وبراعة فنّيّة تصويريّة، وليس بأفكار خلّاقة. فنّ تصويري خلّاق أدهش، وأخفى وراءه آراء شاء مروّجُها تعميمَها.  المقدرة التي مكّنت الوجوديين من أسر أجيال القرن الماضي كان الفضل فيها لأسلوب فنيّ روائيّ ومسرحيّ وتشكيليّ سهّلَ إرسالَ الإشاراتِ والتقاطَها؛ أسلوب أخفى أفكارا فلسفية تشككية ظلّت حكرا على النخبة منذ انطلاقتها في القرن السابع عشر مع ” ابو الفلسفة الحديثة  رينه ديكارت ”  وانتقالها الى ” ايمانويل كانط” وتوسعها على يده ، وتطوّرها في الحقبة التالية من الزمن مع ” تشارلز داروين” و ” فريدريخ نيتشه” و ” كارل ماركس ” وسواهم.
عبقريّة ” جان بول سارتر “، على سبيل المثال لا الحصر، كَمَنَت في طريقة تقديمه للصورة وتبليغه للفكرة، إنْ أنا تتبّعت حوار شخوصه على المسرح، أو قرأتُ سردا لدقائق حياتهم في رواية له. أوهمني ” سارتر ” بالبُعد الجماليّ  الساحر لأعماله الأدبيّة، وبدهائه التعبيريّ الذي خفي عليّ يوما، أنّي أنا هو الشخص الاستثنائيّ المفرط ذكاءً، لمجرّد أنّه لم يصرّح لي بفكرته بل لمّح، ولمجرّد أنّي فهمتُ ما يريد نقلَه إليّ بوسيلة الإيحاء لا الشرح الصريح. أشركني سارتر الفنّان في الجريمة، من حيث لا أدري. أوحى لي، وتركني أستنبط الفكرة من الإيحاء، فأُسَرّ وأتبنى المبدأ انطلاقا من اكتشافي الفكرة. زرع في فكري بعبقريّته الإستثنائيّة أفكارَه، وجعلني أعتقدُ أنّي اختلقتُها بمقدرتي الفذّة، فتشبّثتُ بها ورفضتُ كلّ ما هو مخالف لها..! صارت أفكارُه لي؛ صارت أنا..!

كنتُ، إنْ ملّتْ روحي من قراءات جافّة كهذه، ألجأ إلى شعر ” شارل بودلير ” باحثا مثله عن جمالٍ ما، في زهور شرّ تنتشر في جِواري، هاربا من الحقيقة إلى بهاء فتّان، طالما تعذّر العثور عليه في ما هو حولي. وأحيانا كان ” بودلير ” يقودُني إلى الإبحار في عوالم الرمزيّين أو السورياليّين، مستمتعا بتخيّلاتهم الغريبة عن المنطق وصوَرهم الواهمة الجاذبة؛ فأسعى أحيانا إلى نقل أفكارهم  باللون، أو إلى الإنتظام في صفوفهم بكتابات لا تخلو من الغرابة إن قستَها بمقياس المنطق، أو إذا سألتَ العقل عن موقفه منها ورأيه فيها.
ولعي بالعالم الذي ابتكرَه السورياليّون عمّق شكّي بحقيقة العالَم الروحيّ الذي جاء منه المسيح وأغرانا به، قبل أن يعود إليه؛ كما شدّد رفضي لكل كلام عن بنوّة إلهيّة، ووحدة إبن وآب في الجوهر. رأيتُ في عالَم المسيح ما وجدتُه في عالم السورياليّين، فضممتُه إلى مدرستهم جاهلا بعضا من جوهره ورافضا بعضَها الآخر. قلت – وكنت مخطئا في ما قلت – : إنّه عالَم اختلقَته مخيّلة رجل حالم، غاص في ما هو وراء الواقع، واختلق تصوّرات، لا موطئ للعقل والمنطق على أرضها. هكذا تصوّرت يوما تخيّلات المسيح وعوالم الكتاب المقدّس الأسطوريّة ..!

في ذلك الزمن السيّء عملقتُ ” جان بول سارتر ” إذ سمعته يقول: ” لا وجودَ للجحيم كما وصَفَتْه الأديانُ والمذاهبُ على تنوّعها. ألآخر الذي يعيش بجواري هو جحيمي. أنا هو جحيمه. ألآخر الذي يعيش بجوارك هو جحيمك. أنت جحيمه أيضا “. عملقتُه من حيث لا أدري، ومن حيث لا يستحقّ. بالضبط، كما عملقتُ الكثيرين غيره ممّن ماثلوه. كنتُ مخطئا في ما فعلت…

اليوم، تفتّح بصري على عالم فريد آخر، وبصيرتي على  آفاق بهيّة أخرى. أجزم، قارئي العزيز. هي الأصدق والأجدى. ألأصدق والأجدى لكلّ باحث، سواء نشدَتْ روحُه الفرح والسلام، أو تاقَتْ نفسُه لمعرفة الحقّ والحقيقة.
بلوغ هذا العالَم هو من السهولة بمكان. لا تنتظر ساعة انتقالك إليه من عالَمنا الدونيّ، لتعرفَه وتعاينَ أسراره..! إبدأ مسيرتك  منذ الآن. تعرُّفُك عليه، وأنت لا تزال أسيرَ الجسد، يقصّر لك المسافة لحظة انعتاقك منه. عودتُك إلى الوطن تكون ممتعة..! تعرّفك على بيتك الجديد يكون يسيرا..!
صدّقني، أنا لا أخدعُك. أنا على ثقة بما أقول. قارن بين ما اجترحَته مخيّلة ” سارتر ” : ” ألآخر هو جحيمك “؛ وبين بشارة السيّد المسيح التي تتأكد لك وتتضح، إن أنت قرأت رسائل الرسول بولس. بشارة السيّد اوجزها: ” ألآخر هو النغم الثاني الذي لو انضمّ إلى النغم الأوّل الذي هو أنت، لشكّلا معا سمفونيّة رائعة تفرّحك كما تفرّح قلب الربّ “. قارن بين الصرختين ومايز بينهما…
تعمّق صديقي في كتابات بولس الرسول. تعمّق بها جيدا. إقرأها بعقل فلسفيّ لا لاهوتيّ. أعمِل فيها قوانين السببيّة والحتميّة والوجوديّة، لا بأس بذلك. أعطها حقّها من وقتك وجهدك، كما أعطيت ” إيمانويل كانط” حقّه في ما مضى. ثم قارن بين النظريتين. زِنْ الرجلين. لا أقول لك بميزان الروح والإيمان، بل بميزان الشكّ والعقل. واختر ما ومَن ترى أنّك مرتاح له..
إبدأ رحلتك الآن، يا صديقي. باشر قراءة ما عمله المسيح على الأرض، وما قاله، وما قيل له، وما قيل فيه، وما قيل عنه. دقّق في تحليل السبب الذي من أجله جاء. تساءل عن السبب الذي توجّب من أجله أن تكون ولادته عذراويّة، ثمّ عن السبب الذي توجّب من أجله أن يموت.. صلبا..! حلّل هذه الصور بتمهّل وتؤدة وفهم…
لا تكتفي بالتعرّف الى “كانط” و “فولتير” و ” نيتشه ” و ” سارتر ” وسواهم وسواهم، فقط لأنّهم هم. أو لأننا نحن جعلناهم ما هم عليه. تعرّف أيضا الى دقائق ما كتبه ” أغسطينوس “، وما أنتجه فكر ” الأكويني ” ، وما دوّنه ” باسكال ” من تأمّلات ومن وقائع فكريّة. ثم قارن هذا بذاك…

إن أعياك، بهذه الوسيلة، بلوغَ وطنك ومعاينةَ صورة بيتك؛ إستعِنْ ب “أنشودة الإنسان – الإله “، تنبئْك بكلّ التفاصيل.

[/arabic-font]