[arabic-font]
لقد خُلِقَ الإنسان على صورة الله كمثاله، وإحدى صفات التشبّه هذه تكمن في إمكانيّة الروح على التذكّر، على الرؤية وعلى التوقّع. هذا ما يفسّر إمكانيّة قراءة المسـتقبل، هذه القدرة التي تُمارَس بمشيئة الله.
ولكن تصوّروا، هذا الذكاء الخارق، هذا الفكر الذي يعرف كلّ شيء، وهذه العين التي ترى كلّ شيء، وهذا الذي خلقكم بفعل إرادته، وبنفحة من حبّه اللامتناهي بجعلكم أبناءه بأصلكم، وكذلك أبناءه بمصيركم، فهل يستطيع إعطاءكم شيئاً مختلفاً عنه؟ إنّه يعطيكموه بجزء لا متناه في الصغر، لأنّ الخليقة لا تستطيع أن تستوعب الخالق، ولكنّ هذه القسمة تامّة وكاملة رغم صغرها اللامتناهي.
يا للكنز، الذكاء الذي يمنحه الله للإنسان، لآدم! والخطيئة قد قلّصته، ولكنّ تضحيتي قد أعادته إلى ما كان عليه، وفَتَحَت روائع الذكاء، أنهره، وعِلمه. آه! سناء النفس البشريّة المتّحدة بنعمة الله، مقتسمة معه سعة معارفه!… النفس البشريّة المتّحدة بالله بواسطة النعمة.
لا يوجد شكل آخر للمعرفة. فليتذكّر ذلك أولئك الذين يبحثون بفضول عن الأسرار التي تتجاوز القدرات البشريّة، إنّ كلّ معرفة من هذا النوع لا تأتي من نفس في حالة النعمة، لا يمكن أن تأتي إلاّ من الشيطان – وكلّ نفس تتصدّى لشريعة الله حيث الأوامر واضحة جدّاً ليست في حالة النعمة – ومن الصعب أن تماثل الحقيقة في المقياس الذي تُنسَب فيه إلى البراهين الإنسانيّة، ولا تماثلها أبداً في المقياس الذي تُنسَب فيه إلى فائق البشر، لأنّ الشيطان هو أبو الكذب ويجرّ معه ما استطاع على درب الكذب.
لا توجد طريقة أخرى لمعرفة الحقيقة غير تلك المتأتّية من عند الله. إنّه يكلّمنا، ويقول ويعيد إلى ذاكرتنا، كما الأب يعيد إلى ذهن ابنه ذكرى تتعلّق بالمنزل الأبويّ، ويقول لنا: “هل تذكر يوم فعلتَ الشيء الفلاني معي، رأيتَ هذا وسمعتَ ذاك؟ هل تذكر يوم قبّلتكَ عند رحيلكَ؟ هل تذكر يوم رأيتَ الشمس لأوّل مرّة تسطع من وجهي على روحكَ البكر المخلوقة حديثاً والطاهرة أيضاً لأنّها خارجة للتوّ منّي، والشوائب التي انتقصَت منكَ فيما بعد؟ هل تتذكّر يوم أدركتَ بخفقان حبّ من قلبكَ ما هو الحبّ؟ ما هو سرّ كياننا وتصرّفنا؟” وهنا حيث تتوقّف القدرة المحدودة للإنسان في حالة النعمة، هو ذا روح العلم الذي يُثقِّف يتحدّث.
لامتلاك الروح، لا بدّ من النعمة، ولامتلاك الحقيقة والعلم لا بدّ من النعمة، لوجود الأب مع الذات لا بد من النعمة. إنّها الخيمة التي يُقيم فيها الأقانيم الثلاثة سكنهم، مكان الاسـتغفار حيث يُقيم الأزليّ ويتكلّم، ليس من قلب سحابة، ولكن بالكشف عن وجهه إلى ابنه الوفي.
القدّيسون يعيدون استذكار الله، الكلمات المسموعة في الفكر الخلاّق، التي يحييها الصلاح في قلوبهم لترفعهم كالنسور في تأمّل الحقيقة وفي معرفة الزمن.
أنشودة الإله الإنسان. فالتورتا /1 / 17
[/arabic-font]