[arabic-font]
يسوع يتحدث عن الحكمة والذكاء.
الرشد والذكاء هما من المواهب المجّانيّة الممنوحة للإنسان في الجنّة الأرضيّة، وكم كانت حيويّة النعمة غير المنقوصة والفاعلة حين كانت لا تزال حيّة في نفس الأبوين الأوّلين!
جاء في سفر يشوع بن سيراخ: “كلّ حكمة إنّما هي من لدن الربّ الإله، وقد كانت لديه على الدوام قبل كلّ الدهور“. أيّة حكمة إذاً كان يملكها البشر لو ظلّوا أبناء الله؟
الثغرات الحاصلة في ذكائكم هي الثمّرة الطبيعيّة للسقطة التي ارتُكِبَت ضدّ النعمة والشرف. وبفقدان النعمة أُبعِدَت الحكمة عدّة قرون مثل نيزك يختبئ داخل ضبابيّة عملاقة، فلم تعد تصلكم بانعكاسات صافية، ولكن عبر قتامات تصبح أكثر كثافة دائماً بفعل إخلالكم المتكرّر بالأمانة.
ثمّ أتى المسيح وأعاد النعمة إليكم هبة عظمى من محبّة الله. ولكن هل تجيدون الحفاظ على هذه الجوهرة نقيّة طاهرة؟ أبداً. فعندما لا تحطمونها بإرادتكم الشخصيّة بارتكاب الخطيئة، تلطّخونها بخطايا مستديمة، مع كونها أقلّ فداحة: إهمال، تعلّقات دنسة بميول، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بالرذائل الرئيسيّة السبع، فإنّها تُبهِت صفاء نور النعمة وفعاليّتها. وبعد ذلك، ولتعتيم الوضوح الرائع للذكاء الذي مَنَحَهُ الله للأبوين الأوّلين، كانت قرون وقرون من الفساد قد فَعَلَت فعلها في إضعاف القوى الجسديّة والقدرات العقليّة.
أنشودة الإنسان الإله .. فالتورتا — 1 / 12.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
يسوع يتحدث لفالتورا عن الحكمة. مصدرها. نعمها. حكمة أهله المحيطين به.
لكن أما قيل: “الحكمة تنفخ الحياة في أبنائها، تحمي الذين يبحثون عنها… من يحبّها يحبّ الحياة، ومن يسهر من أجلها ينعم بالسلام، ومن يمتلكها يرث الحياة… من يخدمها يطع القدّوس، ومن يحبّها يصبح محبوباً من الله… من يؤمن بها يرثها إرثاً ثابتاً ولنسله من بعده، فترافقه في التجربة. إنها بداية تنتقيه، ثمّ ترسل لـه خوفاً وذعراً وتجارب، وسوط تأديبه ليشكّله، إلى أن تختبره في أفكاره وتصبح أهلاً للوثوق به. ولكن، بعد ذلك ترسخّه، تعود إليه بدروب مستقيمة وتسعده. تكشف له عن أسرارها، تضع فيه كنوز العلم والذكاء في صدر العدالة”؟
لقد أُحِطتُ بالحكماء الآيلين للموت من أهلي. حنّة، يواكيم، يوسف، زكريّا وأيضاً أليصابات ومن ثمّ المعمدان؛ أليسوا حكماء حقيقيّين؟ لستُ أتكلّم عن أمّي حيث تجد الحكمة مقرّ إقامتها.
مِن المهد إلى اللحد، أوحَت الحكمة لأجدادي شكل حياة يرضي الله، مثل خيمة تحمي من سَورة العناصر الهائجة، لقد حمتهم من خطر الخطيئة. مخافة الله المقدّسة هي في جذور شجرة الحكمة التي ترتفع بكلّ أغصانها لتلاقي في قمّتها الحبّ الهادئ في سلامها، الحب الساكن في أمانها، الحبّ الواثق في إخلاصها، الحبّ المخلص في قوّتها، الحبّ الكامل الكريم المحرّك للقدّيسين.
“من يحبّ الحكمة يحبّ الحياة ويمتلكها بالوراثة“. ولكن هذا يتعلّق بكلامي: “من يُهلِك حياته من أجل حبّي يخلّصها”. هذا لأنّ المسألة ليست مسألة حياة تعيسة على هذه الأرض ولكنّها مسألة حياة أبديّة، وليست مسرّات ساعة بل إنّما هي مسرّات لا نهاية لها”.
الأولاد ينتمون لله قبل انتمائهم لذويهم. وكلّ ابن يستطيع قول ما قُلتُه لوالدتي: “ألا تعلمين أنّه ينبغي لي أن أكون في ما هو لأبي السماويّ؟” ويجب على كلّ أب وكلّ أمّ، لمعرفة السلوك الذي عليه أن يراعيه، أن ينظر إلى مريم ويوسف في الهيكل، وإلى يواكيم وحنّة في بيت الناصرة الذي يخيّم عليه الفراغ والحزن كلّ يوم أكثر من الذي سبقه، إلّا أنّ شيئاً واحداً فقط لا يضعف أبداً، بل لا يتوقّف عن النموّ: قداسة قلبين، بل قداسة اتّحادهما.
أنشودة الإنسان الإله .. فالتورتا — 1 / 15.
++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
عن الذكاء الذي اعطي ليوحنا المعمدان:
«لم يكن يوحنّا في حاجة إلى إشارة من أجل ذاته. فَرُوحه السابق تقديسها مذ كان في أحشاء والدته كانت تمتلك رؤية الذكاء فائق الطبيعة التي كانت ستكون نصيب كلّ الناس لولا خطيئة آدم.
لو بقي الإنسان في حالة النعمة، في البراءة والوفاء لخالقه، لكان رأى الله عبر المظاهر الخارجيّة. قيل في سفر التكوين إنّ الرب الإله كان يتكلّم مع الإنسان البريء بشكل ودّيّ، ولم يكن يغشى على ذاك الإنسان لدى سماع هذا الصوت، ولم يكن يخطئ في تمييزه. هكذا كان مصير الإنسان: رؤية الله وإدراكه مثل الابن حيال أبيه. ثمّ أتت الخطيئة، ولم يعد الإنسان على إثرها يجرؤ على النظر إلى الله، ولم يعد يستطيع معرفة واكتشاف وإدراك الإله الذي باتت معرفته به تتناقص يوماً بعد يوم.
إنّما يوحنّا، نسيبي يوحنّا، فقد تَطَهَّر من الخطيئة عندما انحَنَت الممتلئة نعمة بِحُبّ لِتُقَبِّل التي كانت يوماً عاقراً وأصبَحَت وَلودة، أليصابات. وقد قفز الجنين فرحاً في أحشائها عند سماعه قشور الخطيئة تسقط مِن على نفسه كما تسقط القشرة مِن على الجرح لدى شفائه. الروح القدس الذي جَعَلَ من مريم أُمّ الـمُخَلِّص، قد بدأ صنع المجد عَبر مريم، الكأس الحيّ للمجد المتجسِّد، لهذا الطفل الذي سيولَد وهو معدّ ليرتبط بي، ليس فقط بالدم بقدر ما يرتبط بالرسالة التي تجعل مِنّا مثل الشَّفَتَين في تشكيل الكلمة. فيوحنّا كان الشَّفَتَين وأنا الكلمة. هو السابق في الكِرازة وفي مصيره كشهيد، وأنا الذي أعطي كمالي الإلهيّ للكرازة التي افتَتَحَها يوحنّا، واستشهاده في سبيل الدفاع عن شريعة الله.
لم يكن يوحنّا في حاجة إلى إشارة، إنّما بسبب غلاظة أرواح الآخرين كان لا بدّ من إشارة. فعلام ارتَكَزَ يوحنّا في تأكيده إن لم يكن على دليل لا يُدحَض، كانت عيون الناس البطيئة في الرؤية وآذانهم الكَسولة قد أدرَكَته.
وأنا كذلك لم أكن في حاجة إلى العماد. إنّما حكمة الربّ قد ارتَأَت أن تكون هذه اللحظة وهذه الطريقة هما المفروضتان للّقاء، وذلك بإخراج يوحنّا من كهفه في الصحراء وإخراجي من بيتي، وقد جَمَعَتنا في هذه اللحظة لتنفتح السماء فوقي وينزل منها روحه ذاته، حمامة إلهيّة على الذي سيكون عليه أن يُعَمِّد الناس بهذه الحَمَامة، ويأتي من السماء الإعلان الجهوريّ الملائكيّ لفكرة أبي هذه: “هوذا ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ”. هذا لكي لا يبقى للناس عذر أو شكّ في معرفة ما إذا كان ينبغي لهم أن يتبعوني أم لا.
أنشودة الإنسان الإله .. فالتورتا — 2 / 4.
[/arabic-font]