[arabic-font]
نحن في كانون، ولكانون ذكرياتُه في حكايات الجدّات الطيّبات. بردٌ ومدفأةٌ ونارٌ ودخانٌ، ولوزٌ وجوزٌ وتينٌ وزبيبٌ؛ وسهّيرة يتسامرون ويتشاكسون، إذ هم يلعبون الليخة والطرنيب . هذا كان، إذْ كنّا صغارا، في ضِيَعِنا اللبنانيّة، قبل أنْ نتنازل عنها، ونقدّمها فريسة لمدنيّة بغيضة وافدة؛ أمّا أوروبا، فالصقيع الّذي تمكّن من قلوب أهلها، لفّ هذه السنة طبيعتها، كما لم يفعلْ منذ عقود.
أنا في فيينا، أعبُر ساحة القدّيس إسطفانوس، قرب الكاتدرائيّة. رُقع الثلج ترسلها السماء هديّة إلى أرض أنكرت الفضل. على زاوية الكاتدرائيّة شابّ وشابّة، بدا من الدفاتر التي يتأبّطانها إنّهما طالبان. هما يتشاففان، مستندين إلى حائط الكاتدرائية.
المشهد مألوف في هذه البلاد. مشروع لأهلها على قاعدة ” أقتلْ أباك “. هو لا يزال ثقيلا على أعين الوافدين من الشرق الأوسط، بخاصّة إن كانوا من المتشبّثين بأوامر دينهم ونهاياه.
المشهد وردّ الفعل المتفاوت عليه، أحيا في ذاكرتي موقفا صارما لميخائيل نعيمة، دعا فيه إلى التبتّل، كمعبر إلزاميّ للإنعتاق من جواذب المادة وبلوغ المملكة السماويّة. هو اعتبر إنّ الزوجات المحصّنات الشريفات والأزواج المحصّنين الشرفاء يختلفون عن الزواني، فقط بكونهم امتلكوا ترخيصا خطّيّا، من جهة دينيّة أو مدنيّة، يخوّلهم ممارسة فعل جنسيّ، يجرَّم كلُّ من مارسه دون ترخيص مسبق.
في مقابل هذا المذهب، نعايش في مدنيّتنا الغربيّة مقولة ثوريّة اسمها ” أقتلْ أباك “، إدّعى معتمدوها إنّها وراء كلّ نهضة حقّقتها مجتمعات ما بعد الحربين العالميّتين.
” أقتل أباك ” عنى بها المروّجون لها: أخرجْ من صفيح قفص تقاليد أبيك الّذي ورثه هو عن أبيه. إسعَ باحثا عمّا هو أفضل لمستقبلك أنت، كما لم يفعلْ هو. إصغِ فقط إلى صوت العقل الّذي لا يقبل إلّا بالمُثبَت بالبراهين العلميّة المحسوسة. حضارة “أقتل أباك ” الّتي روّج لها أدب ألمانيا ما بعد النازيّة، إستهوت أجيال الغرب منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية الّتي هدف الحلفاء إلى الإنتصار على وجهها العسكريّ المتمثّل بأدولف هتلر، بينما استمرّوا بتغذية وجهها الفلسفيّ المشوَّه المتمثّل بمبادئ ” داروين “، فنشّأوا الأجيال على كونها قاعدة علميّة صلبة يُبنى عليها.
شباب الغرب قتلوا آباءهم. في ألمانيا شجّعتهم كتابات ” جونتر غراس ” على ذلك؛ أُعجبوا بواحد من مبادئه: «الحقيقة مملّة جداً، ولذا يجب أنْ نبتكر الأكاذيب». حثّتهم المناهج التعليميّة المعتمدة على ذلك. تلذّذوا بفعلتهم الشنيعة هذه…
تطلّعوا إلى الأعالي. سمعوا نداء من أبٍ آخر، غير مرئيّ، يؤنّبهم على فعلتهم، ويحذّرهم من عواقبها… قالوا: نقتله أيضا.
قتلوه. أسكتوا صوت السماء. طردوا الروح من أرضهم. إنّهم يسيرون بخطى متسارعة إلى نهاية بائسة محتومة. كلّ الإنجازات العلميّة التي أنتجتها سياسة ” أقتل أباك ” ستكون عبئا على الإنسان، إنْ لم يسارع إلى استرضاء الروح واستدعائها للعودة إلى كوكبه.
الشابّة والشابّ اللذان كانا يتشاففان، مستندَين إلى حائط كاتدرائيّة القدّيس إسطفانوس، لم يشكّلا مصدر إزعاج لي من حيث كونهما أخلّا بقيمة أخلاقيّة أو قاعدة إجتماعيّة. كنتُ لأحتمل فعلتَهما وأتفّهمها، لو إنّي تحسّست في نفسَيهما فرحا، نتج عن دعوة روحيّة داخليّة للشروع في بناء عشّ من على حائط كاتدرائيّة شهيد المسيحيّة الأوّل.
أخشى أن يكونا قد قتلا أبويهما طمعا بلذّة عابرة، يستمتعان بها، بتغذية أحساسيسَ نسمّيها حاجة محفّزة. أسمّيها سقطة.
سقطة فُتِنَ بها الأبوان الأوّلان. إستجلبت لعنة، وكان ما كان…
[/arabic-font]