في الطريق إلى المغارة !

[arabic-font]

ما يعنيني من مغارة الميلاد ليس المكان أو الحدث بذاته، بل موضعي أنا فيه. أنا محورُ الحدث وهدفُه.. حتّى ولو أنّ إستيلائي على شخصيّة الثور يشي بميلٍ غريزيّ، ويستجلبُ تهمة..!
بهذا المفهوم لا يعنيني أن يكونَ حدثُ الميلاد في مغارة مُثبَتاً تاريخياً، أو هو من نسج خيال. المتقدّمُ في فكري على سواه هو ثبوتُ وجودي أنا في الصورة. أنا الشخصيّة الرئيسيّة في المشهد، حتى ولو كان في العالم الافتراضي.
ليست هذه غوايةَ نفس، أو لعبةً ثوريّةً أمثّلُها على مسرح سنواتي المتدحرجة. إنّها ببساطة شهوةُ روح تشهدُ نموَّ ريش جناحيها.
إنْ سلّمتُ بهذه المُسَلّمة، وانطلقتُ منها في بحثي عن الحقيقة، اكتشفْتُ بعد فترة أنّ الحقيقةَ التي أبحثُ عنها بجواري في المغارة، إنّما هي في داخلي، أنا الموجود في المغارة. هذه الفكرة الوهميّة المتحوّلة إلى فكرة منطقيّة لا تناقض الفكرة الإيمانيّة بأنّ الحقيقة موجودة فعلا في المغارة، ولكنّها تسهّل تقبّلَي لها.


أنا، ولأحجزَ مكانا لي في المغارة، اخترت الاستيلاء على شخصيّة الثور، وأكونَ في جلده.
أنتَ، لو استحسنتَ وسيلةً أخرى وفضّلتَها، فلتكنْ… المهّمُ أن تكونَ معي في المغارة. أنْ تُقحِمَ نفسَك في المشهد…
حبّذا لو تكونُ شخصيّةً حَرِكَةً، لا متفرّجة…!
حتّى المغارة التي أبنيها في زاوية غرفتي.. شهوتي أنْ أكونَ بين شخوصها..!


ودّي مع صديقي الذي هو على غير المسيحيّة صفا. نما. تخاوينا. تحاببنا.
تحابُبُنا سهّل تلاقي أفكارَنا وتواردَها. سهّل تكامُلَها.
قال: فهمتُ ممّا كتبتَ أنّ الهدفَ الأوّل من اختيار المتجسّد المغارةَ مكاناّ لولادته هو أنْ يتواجدَ قرب الثور والحمار “اللذين هما أنت وأنا”. فضّلَ السيّدُ هذا على أنْ تنفتحَ عيناه وسط شعبه الضّال المتمرّد. هل فهمي لفكرتك جاء على ما شئتَ لها أن تكون؟
قلتُ: تستطيعُ أنْ تقولَ أيضا “اللذين هما أنا وأنت”. على أنْ نكفّ عن كونِهما.
قال: تتمسكنُ، فتواسيني؟
قلتُ: لا، لا رجاء لي في أنْ أتمسكنَ، بل في أنْ أتمسحنَ. أتمسحنُ بمقدار ما أقوى. أنسحقُ بمقدار ما أقوى. يتنزّلُ ما في فكره في  فكري. أحسُّ ما في قلبه. أصيرُ أهلاً لأنْ أستضيفَه في قلبي. أصيرُ أهلاً لأنْ يراه الناس في وجهي…
يا لَغبطتي، لو إني استحقيت.. لو إنّي قوَيت..!


عدتُ إلى الأساس في حديث صديقي. قلت: في سنوات عمله على الأرض عَمَدَ يسوعُ إلى الرمز للتعليم. كان غالباً لمّاحاً في كلامه، فلماذا لا يعتمدُ الرمزَ والتلميحَ أيضاً في مشهد ولادته؟
ثمّ فلنتبصّر بكلامِ الربّ، المُكلَّفُ النبيُّ الإنجيليّ أشعياءُ نقلَه إلى شعب إسرائيل، قبل حدث المغارة بما يزيد على سبعمائة عام:
اِسْمَعِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ، لأَنَّ الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ: «رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ، أَمَّا هُمْ فَعَصَوْا عَلَيَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ».
إذا كان الربّ، بنبوءة، فضّل الثورَ والحمارَ على شعبه إسرائيل، أفَمنَ الغرابة أن يختارَ مكانَ ميلادِه في جوارِهما؟ وليس، أو ليس فقط، كما يتمّ الترويج له، أنّه اختار هذا المكان ليعطيَنا درساً في الإنسحاق والتواضع…!

 

[/arabic-font]