صحافيّ مسيحيّ مثقّف شجاع.

في تعريف ناهض حتّر بأنّه مسيحيّ مثقّف شجاع.

أقول إنّ الجمع بين كون الإنسان مسيحيّا مؤمنا ومثقّفا شجاعا يحتمل الخطأ، ويحتاج إلى نظر إيضاحيّ لمقاصد كتّاب عصرنا الحديث. هؤلاء أنكروا على كلّ كاتب ومفكّر مؤمن إنتماءه إلى جماعة المثقّفين المستنيرين، إن هو سخّر علمَه للدفاع عن فكرة وجود حياة أبديّة، والدعوة إلى الإيمان بها، والإجتهاد لاكتسابها.. مثقّفو العرب المُحدثين اغتصبوا الثقافة العربيّة المعاصرة، وتسلّطوا على مفاتيح تعريفاتها، محتكرين ألقابا، أشكّ في جدارتهم بها.

كلّ مفكّر مسيحيّ، مهما علت ثقافته، لا يمكن إلا أن يكون ساذجا، رجعيّا، إنعزاليّا، تابعا لإله مُفترض، لاهثا وراء وَهْم، مصدّقا لخرافات وأساطير لا تتوافق مع أحكام المنطق السويّ، ومبادئ التفكير السليم. هكذا يراه جمع المثقّفين العرب.

كلّ مفكّر بنى عقيدته على الإيمان بحياة أبديّة، وسخّر حياته للبحث فيها والكتابة عنها، ليس بمثقّف. هم لا يأبهون إن سمّي فيلسوفا. لا يعترضون على ذلك. هذا يُبقي لهم مساحة تحرّك تسمح باتّهامه بالجهل والرجعيّة. هذا يصحّ في شرقنا البائس على كل مفكّر مؤمن؛ فكيف الحال إذا إن صدف وكان هذا المفكّر مسيحيّا، مؤمنا بما هو عليه؟

حتّى تكونَ مثقّفا، وجب عليك، بحسب مبادئ حركة التنوير الحديثة، أن تقرّ بكون الدين ليس إلا مادّة مخدّرة لعقول الشعوب. هو أفيونها المسؤول عن تخديرها، ومنعها من الإرتقاء في سلالم العلم والإبداع.

تستحقُّ الإنتماءَ إلى نادي المثقّفين العرب، إن أنت أخذت من علوم الأقدمين بطرف. إن أنت اتّفقت مع ابن خلدون على صوابيّة مبدأ الحتميّة التاريخيّة، فباتت تعنيك فقط من حيث كونها برهانا على أنّ إسرائيل إلى زوال، وفلسطين عائدة إلى أهلها، بسلاح الشعارات، والكلمة المكتوبة بالرصاص. تكون في طليعة النخبة المثقّفة إن أنت وافقت الوجوديّين الغربيّين في كلّ ما اعتنقوه وبشّروا به. دفاعُك عن هذين المبدأين، مضافا إلى موقف مناهض للإستعمار الغربيّ، وإلصاقك كلّ مذلّة لازمت الأمة بهذا الإستعمار، كفيل بحجز مقعد لك في نادي النخبة المثقّفة التي تكلّمت كثيرا منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة، ولم تفعل شيئا.

واحدٌ من الوجوه العربيّة المثقّفة، ناهض حتّر، ضاع أخيرا في انتمائه. جال يبحث عن هويّته – وهو الذي برّر خلافه مع السلطة الأردنيّة بأنّه يناضل من أجل سلطة ديمقراطيّة – ، إلى أن انتهى مواليّا لواحد من أقسى الأنظمة الشموليّة في الشرق الأوسط. ليس هذا فقط، بل إنّه تفاخر بذلك، فنشر على صفحته صورا له في زيارة وديّة للرئيس السوريّ.

نخبة المثقّفين العرب فشلوا في تربية جيل مثقّف يخرج من عباءة التطرّف والتديّن الزائف، لأنّهم كانوا هم الوجه الآخر للتطرّف. إستوردوا الأفكار، ولم يبتكروا منها شيئا يُذكر. قتلوا روح الأرض، وأخرجوها من المعادلة. كانت النتيجة تزلّفهم من جديد على أبواب قصور الطغاة، باحثين عن حماية ضدّ من يسمونهم غوغاء سوقيّين، متناسين أنّ هؤلاء كانوا يوما تلاميذا لهم على مقاعد الجامعات العربيّة الفاشلة.

ثقافة المرحوم ناهض حتّر أوصلته إلى التباهي بمبادئ الديمقراطيّة التي كان لها بعضٌ من الفضل في اجتراح معجزة مدنيّة الغرب الحديثة. أغوته هذه المبادئ، فلم يأبه لكونها تسبّبت أيضا بقتل روح الأرض، وحرمان الإنسان من أبرز مميّزات كينونته. بحث عن الديمقراطيّة وناضل من أجلها، غافلا عن النتيجة الكارثيّة الحتميّة لأيّة عمليّة إنتخابيّة ديمقراطيّة نزيهة يمكن ان تجري في وطنه الأردن.

بهذا حقّ التساؤل عمّا إذا كان المرحوم حتّر اغتيل فعلا، أم إنّه بتعبير أصحّ قد انتحر…

أليست فِعلتُه نموذجا عمّا فَعَلَتْه جماعةُ المثقفين الشجعان الذين أغوَوا أجيالا من الشباب بعقائد عارفين أنّها مجّرد أوهام لا توصِل إلا إلى الإنتحار؟

ألربيع العربيّ السيء الذكر، أليس عمليّة انتحار جماعيّ  بدأت بها جماعات من الحمقى احتكروا تسمية المثقفين العرب؟