كان كلامٌ كثيرٌ في اليومين الماضيين عن اغتيال الصحافيّ الاردنيّ ناهض حتّر في عمّان.
ألأستاذ حتّر كان قد نشر على صفحته رسما كاريكاتوريا شاء أن يسخر فيه من الاصوليّين المتعصّبين. إعتُبر الرسمُ مسيئا للذّات الإلهيّة. هبّ جنودُها للثأر لها.
اليوم قرأت في نبأ مقتضَب أن رسّاما مغربيّا شاء تحدّي مغاوير الذات الإلهيّة. أعاد نشر الرسم على صفحته. العاقبة كانت تلقّيه تهديدا بالقتل.
إستوقفتني مقالة للصحافيّ اليساريّ اللبنانيّ جهاد الزين، عدّد فيها مزايا زميلِه الاردنيّ، فكانت أيضا تحليلا لواقع حال لنا مأساويّ.
في تعريف به قال الزين: هو مسيحيّ، يساريّ، مثقّف شجاع. كان يعترف بفضل النظام الهاشميّ واحتضانه للمسيحيّين وتقبّله لليساريّين، ولكنّه كان يعارضُه سعيا الى نظام اكثر ديمقراطيّة. أخيرا برّر تأييدَه لنظام بشار الأسد، ولنشره صورة له معه.
هذا التعريف يُحتّم عرضا نقديّا متمهّلا، ويحتمل تشكّكا في كلّ ملامح شخصيّة الصحافيّ اليساريّ المسيحيّ.
ناهض حتّر مسيحيّ يساريّ. كيف يستقيم هذا الكلام؟ كيف يمكنُ للمرء أن يكون مسيحيّا، وفي نفس الوقت يساريّا؟
منذ انطلاق عصر التنوير الثقافيّ العربيّ في بدايات القرن الماضي على أيدي كنّاب وصحافيّين مهاجرين، كانوا بمعظمهم منتمين للطوائف المسيحيّة المشرقيّة، شهدنا إطلاقا لمفهوم جديد للمسيحيّة، على أساس كونها حركة إجتماعيّة إشتراكيّة تهدف الى فرض المساواة في المجتمع، عن طريق الأخذ من الأغنياء، بما فيهم السلطة الكنسيّة، وإعطاء الفقراء. بهذا صحّ القول إنّ المسيحيّة باتت بنظر هؤلاء حالة بطوليّة ” روبنهوديّة ” جديدة، لا علاقة لها البتّة بالمسيح حامل سرّ الفداء الخلاصيّ الذي يختصر المسيحيّة ويميّزها. بهذا صار أيضا من الواجب تحديد الطائفة المعنيّة بالكلام عن المسيحيّة، أهي الطائفة المسيحيّة السابقة أم الجديدة؟
الحركة هذه تقوّت وتجذّرت في المجتمع العربيّ، مع انطلاق حركات القوميّة العربيّة المناهضة للإستعمار الغربيّ لبلاد العرب، وهي تعمّمت أكثر ما يكون في وجدان الشباب العربيّ إثر النكبة الفلسطينيّة. في هذه المرحلة صار من الممكن الحديثُ عن طائفة مسيحيّة ناشئة، صعدت في قلب بعض المذاهب، وفي ظلّ بعضها، وتغذّت من دمائها. أعضاء المذهب هذا يؤمنون بالسيّد المسيح كبطل ثائر على الواقع بهدف إصلاحه؛ غير معنيّين إطلاقا بولادته الاستثنائيّة، وبكلّ معجزاته، كدليل على كونه الإله المتجسد، تحقيقا لوعد إلهيّ، وبهدف خلاصيّ في عهد جديد معقود بين الله والإنسان.
إن نحن اعترفنا بشرعيّة هذه الطائفة المسيحيّة الناشئة، المستهزئة برجعيّة الطوائف الأخرى وسذاجة معتقداتها؛ إذذاك، وإذذاك فقط، يمكننا تقبّل مبدأ التلاقي بين المسيحيّة والحركة اليساريّة، سواء المتطرّفة منها أو المعتدلة. هنا فقط، يصير ممكنا تمريرُ فكرة تقديم المرحوم ناهض حتّر على أنّه يساريّ، ومسيحيّ أيضا…
ودِدتُ لو أنّ جهاد الزين قال عن زميله إنّه “مسيحيّ روبنهوديّ”، يساريّ. لو فعل هذا لأقرّيتُ فعلته، وأيّدتُها…
— في حديث قادم: ناهض حتّر مسيحيّ مثقّف شجاع. كيف يكون هذا؟