دون بوسكو يواجه الكوليرا.. ألبير كامو الطاعون.

ألأب يوحنّا دون بوسكو. شخصيّة حقيقيّة. كاهن مسيحيّ سمع نداء السماء. إستجاب له.
دكتور ريو. شخصيّة وهميّة. بطل أبرز قصص ألبير كامو: الطاعون.

دكتور ريو، حامل عقيدة العبثيّة الوجوديّة التي اعتنقها ألبير كامو وبشّر بها، يريد أن يبقى على الأرض، لأنّه يعجز عن الطيران في الهواء. هو لا ينفي صحّة قدرة جوزف كوبرتينو على الإرتفاع في الهواء، ولا ثمرة إيمان يوحنّا دون بوسكو الإيمانيّة . هو لا ينفي هذه الحقيقة، ولا هذه الثمرة، ولكنّه يقرّ بعجزه عن فهمهما، أو التشبّه بهما.
هو يعجز عن التشبّه بهما.. عن فهم عمق حبّهما، وسبر غور إيمانهما. وجود المنظّر اللاهوتيّ، رجل العقيدة والطقوس الأب بانلو، إلى جانبه، لم يسهّل عليه ذلك، لأنّ الأب حاذق في سرد وقائع قصتيهما، ولكنّه هو أيضا عاجز عن التشبّه بهما. لم تبقَ للدكتور ريو إلا الحلول البشريّة.
لم يصلّ. لا يتقن فنّ الصلاة. راقب الذين صلّوا عن بُعد. لم يُصَب بخيبة أمل نتيجة عدم إتيان الجواب من السماء، لأنّه لم يأمل بذلك أصلا.
وجد نفسه وقد زُجّ به في هذا المأزق. تحلّى بالشجاعة وواجه. شجاعته حوّلت العبثيّة العدميّة التي فُرضت عليه إلى عبثيّة وجوديّة أخلاقيّة. بحث عن سبب المرض. حاول إيجاد العقاقير اللازمة للتصدي له.
ما فاته هو الإدراك، أو أقلّه التفكير بإمكانيّة أن تكون السماء قد مدّت يدَها عبر عقله لإعانته، لأنّه هو أيضا ابنٌ للسماء، ويختزن في كينونته، ولو لا شعوريا، حبّا ما.. وبمقدار ما.

عجز دكتور ريو عن الإرتقاء بالإيمان لتتحقق استجابة السماء لا يوجب اتهامَه بالإلحاد. لا يعني أنّه كافر. هو واحد من الأكثريّة العاجزة التي تلجأ الى العقاقير الطبيّة؛ ثمّ، إذا خاب الأمل بالطبيب، إلى الشفاعة بالقدّيسين. هذا لبرودة إيمانها.
لجوؤه الى الممكن خيار طبيعيّ للخروج من المستحيل، بعد عجزه عن تحويله إلى واقع، ونتيجة عدم تلقي من أرسلوا دعاءهم الى السماء أيّ جواب. هو لا يُلام في ذلك إلّا بمقدار. هذا يعطي بعض الحق للمدافعين عن ألبير كامو بمواجهة من اتّهموه بالإلحاد.

ألأب بانلو ليس هو الأب يوحنّا دون بوسكو. ليس أيضا الدكتور ريو. إنّه في منزلة بين المنزلتين.
منزلته أقرب الى الفرّيسيّة منها إلى الرسوليّة.
أرسل الأب بانلو نداءه إلى السماء، وانتظر. لم يأتِ الجواب. لم يفقد الأمل، ولا الإيمان. ظلّ يصلّي. لم يستسلم.
لم يستسلم، ولكنّه أيضا لم يهاجم. لم يقتحم. لم يلتحم..!
كان يصلّي ويصلّي، ثم يقول للمصلّين معه إنّ السماء لا تريد. هي مقفلة. هي غاضبة. لسبب ما. نحاول ثانية.  آه، هي لا تريد..! نحاول.. لا تريد..!
نداءاتُه استمرت. لا شكّ عندي أنّها كانت نداءات صادقة، ولكنّها أيضا نداءات الحاجة. الحاجة المفتقرة لحساب برصيد ضخم  في السماء، يمكنها الاستناد إليه. ألأب بانلو ما كان يصلّي، بل يجرّب خيار الصلاة، ويأمل الإستجابة. لا فكرة عنده عن مفهوم اقتحام السماوات. هو ينتظر قدومها إليه.
صلاة الحاجة هذه قد تكون حارّة، ولكنّها الأولى بهذه الحرارة. لم تتكدّس صلواته الحارة في رصيده، فتزكّيه…
ألأب بانلو مرّ بسرعة على ما كتب داود في مزموره: “أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي“. لا شك في كونه إبنا لله، ولكنه لم يتجاوز عتبة البنوّة العاديّة لأبٍ أنجب الكثير من الأبناء.

ألأب يوحنّا دون بوسكو عرف كيف يكون أمينا بحبّه وإيمانه وضعته. صار إبنا محبوبا. تميّز، فحُسب ذلك له فضلا.
لم يرتفع إلى السماء. جاءت السماء إليه..!
إستطاع أن يحادثَها بلغة البشر، فما حاجته بعد إلى فلسفتهم؟