التواصل مع الذين ماتوا، معقول؟

ماتوا؟  لكم ارتحت لكلمة غابوا… لكم أنستُ بها…

يبقى الموت سرا كبيرا كما هي الحياة. التصالح معه لم يتمّ. تمّ مع القيامة. هذا يعني أن الموت يبقى عدوّا، ويبقى  آخر عدوّ يبطُل. الغلبة في المعركة معه لا تكون بتجاوزه، بل بالخروج من سردابه بعد الدخول إليه. ألدخول فعل محتوم لا مفرّ منه.

قناعتي أننا موتى عند دخولنا السرداب، أحياء عند خروجنا منه. في السرداب نحن في قبضة الموت. نصير غُيّابا عند تحرّرنا، إثر خروجنا …

مَن لا يخشَون نهاية الوجود الأرضيّ قلّة مُختارة. أو هي بالغة، واصلة، بفعل ممارستها الذاتيّة، ومجاهدتها الإختياريّة. ما نسمّيه النزاع يوجز فكرة التعلّق بالكيان الترابيّ واستصعاب الفراق إلى حدّ رفضه. هذا على أساس عدم فهمنا العميق لفكرة الحياة، واحتسابنا الذين غابوا عنا أمواتا لا لقاء لنا بهم، وجهلنا لكونهم – لاسيما إن كانوا قاماتٍ من نور –  يُسقطون علينا ثمارا سماويّة  لا ندرك غالبا في عتمة وجودنا مصدرَها.

بعد اكتمال مرحلة النزاع يكون الفراق. يكون الفراق بسقوط التراب كليّا من المُفارِق الراحل، فيُمسي نورا كاملا إن استحقّه واقتدر احتماله، وتكون بذلك استحالة تواصله مع الآخر الباقي في التراب.

باعتقادي، حالة التواصل المفقودة يمكن استعادتها بردم الهوّة بين المتحرّر من الترابيّة والحامل لأثقالها المشدود الى مغرياتها.

ردمُ الهوّة هذه فعلُ نضال لتخفيف وطأة الثقل الأرضيّ الترابيّ. هذا النضال هو مسؤوليّتنا نحن الترابيّين، المنتظرين، المتطلّعين إلى الرحمة، الراجين الخلاص والوصول إلى النور.

مَن انتقل إلى الرحمة – وبعد أن تذوّق حلاوة الإتصال بالنور، ونَعِمَ به، واستعاد الجمال الأول – لا يمكن له أن يعاود الحنين إلى التراب، وقد نجح في الخلاص منه. يستحيل عليه إذا أن يعاود الإتّصال بالكلمة، أو بالفكرة، مع من هو نزيل الوجود الأرضيّ الثقيل،  ولصيق الترابيّة القبيحة.

المسؤوليّة على الترابيّ الذي لا يزال عالقا في شراك هذا الوجود الأرضيّ إذا. عليه هو ممارسة فعل الجهاد المتواصل والتوق المتكامل والانسلاخ الإرادي عن حضن هذا العالم، فتخفّ َعنه قوّة التراب وجاذبيّته. يصير مُمَجّدا حتّى ولو إنه لا يزال في الجسد. يرتفعُ. يسمو. ينسكبُ الضياء عليه. نعم، ينسكبُ على جسده.  يصيرُ في منزلة علويّة تؤهّله لسماع العزيزَ الذي غاب،  أو لإسماعه.

بقناعتي هذه الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا التواصل مع الذين تحرّروا فغابوا، فتكونَ بيننا وبينهم مودّات، حتّى ولو إنهم باتوا في ضيافة الرحمن، بينما لا نزال ضيوف الأرض، لصيقي ترابها، نزلاء منازلها