[arabic-font]
يونان يونان أذكره اليوم، وأحنّ إلى الزمن الذي عرفته فيه. تزاملنا في مهنة (رسالة) التدريس. تميّزت زمالتنا، فبلغت بنا حدود صداقة رطْبة. تحاببنا بعاطفة أخويّة تنشأ. تنمو. تشدّ إنسانا إلى آخر، بشعور خفيّ يحسّه الواحد، ولا يغيب عن الآخر. شعور حلاوته في همساته: أنتما من موطن واحد. إشتهاؤه يعزّز حظوظ العودة إليه..
كان صديقي يونان في نهاية ستّينيّاته، وكنت في بداية أربعينيّاتي. شاء يوما استدراجي إلى موضوع لَحَظَ تغرّبي عنه.
قال: مَنْ تعتقد أنّه هو؟
فهمت مرماه. قلت: هي إشكاليّة صعبة. الخلاف عليها كبير، والحسم مستحيل.
قال: لا شكّ عندي إطلاقا أنّه الله في الجسد.
إنتهى نقاشنا في هذا الموضوع عند هذا الحدّ، ولكنّي لا أُنكر أنّها البذرة التي زرعها، فكان اهتمامي الجدّيّ بالبحث لاحقا عن جواب لهذا السؤال الخلافيّ الكبير.
واجهت يوما مشكلة مع تلامذتي، في ترجمة نصّ أدبيّ وجب تعريبه من الفرنسيّة. وقفت عاجزا أمام كلمة (s’entre-baiser) في تصويرٍ لمشهد تبادُل قُبَل فمويّة بين شابّ وشابّة، في مكان عام في باريس. تأفّفت يومها في مجلس ضمّ مجموعة من معلّمي الآداب واللغات، وتعمّدت إثارة زملاء من نصّيّي العربية، فاعتبرت أنّ خلوّ اللغة من هذه الكلمة هو برهان جليّ على دونيّة مَوضَعة المرأة العربيّة.
قلت: المرأة العربيّة لا يحقّ لها أنْ تقبِّلَ (كسر الباء). هي تُقبَّلُ فقط (فتح الباء)… من هنا انتفاء الحاجة لهذه الكلمة، وهذا مظهر واحد فقط من مظاهر بؤسنا الكثيرة…
إحمرّت وجوه هنا، وجاءت تأتأة من هناك. وحده، وجه العزيز أستاذ اللغة والأدب الإنكليزيّ يونان أشرق.
قال: أؤيد قولك، ويؤسفُني أنّ إصلاح هذا القصور يبقى ممنوعا، بحجّة وجوب عدم المسّ بلغة نُزّل الوحيُ فيها.
قلت: لا ذنب لي، أنا أواجه مشكلة، وأريد حلا.
قال: تحتاج إلى إزميل ومطرقة.
تقصّدت الإستغراب: تجرّئني على لغة ذات عصمة؟ أنحتُ كلمة جديدة؟
إبتسامة من ابتسامات يونان اللبقة. وغمّازة لمّاحة.
سألت: وما قولك في يتشاففان؟
تدخّل المحترم الأستاذ مسّوح. قال: بل يتفاممان.
وحسم يونان جدلا كان سيطول. قال: بل يتشاففان.
سألت: ألأنّ الثانية مُغرِقة في الدونيّة ؟ أتستشفّ من خلالها خيالا شرّيرا ؟
أجاب: ولأنّ في الأولى شاعريّة ناعمة، تُلطّف فِعلة الشابّين، تشفع لهما، ولعلّها تبرّئهما.
يونان يونان، في البال دوما، ولكنّ مبعث ذكري له الآن مختلف. وقعتْ عيني صباح اليوم، في زاوية شارع مزدحم في فيينا، وفي طقس جليديّ، على شابّ وشابة يتشاففان. شئت الكتابة عنهما، فعادت بي الذكرى إلى اليوم الذي تجرّأنا فيه – عزيزي يونان وأنا – فمددنا يدنا، إلى لغة مسيّجة بألف سياج وسياج.. ونحتنا فيها كلمة…!
ذلك الزمن الطيّب. أذكرُه اليوم، وأنا أحرق ستينيّاتي واحدة تلو أخرى. على قسوته، أذكره وفيَّ بعض من حنين..!
[/arabic-font]