الملكوت ليس مكانا. هو حالة.
الجحيم ليس مكانا. هو حالة.
بلوغ حالة من الحالتين ليس قدرا. هو خيار.
بل أكثر. هو قرار.
المسألة سهلة جدا، وتقبّلها يسيرٌ جدا، بخاصة لمن سلّم أمره للرب، ووُجد فيه، وارتمى بكليّته بين ذراعيه، أو على الأقل طمح الى ذلك.
إن آمنتُ بصدق أنّ المسيح قد أقام ابن أرملة نايين وقد أوشكت الجنازة على الوصول إلى المقابر، وإن آمنتُ أنّه أقام لعازر في اليوم الرابع، فما الذي يجعلني مترددا في موثوقيّة شفائه، أو إقامته لي؟
إقامته لي الآن وليس بعد موتي، فلا أعرف الموت. إقامته لي الآن تعني دخولي في الأبديّة الآن. نعم الآن..!
يقول الكتاب إنّه تحنّن على أرملة نايين. مشهد رائع.. ولو مُتَخَيَّلا!
وهل نضب خزّان الحنان في قلب سيّدنا وبات من المتعذّر أن أكون مشمولاً، أنا الخاطئ الكبير، بحنانه؟
ويحي، أنا هو الشقيُّ الذي شوّه صورة الإله الذي فيّ.. أنا هو البائسُ الذي غذّى الوحش الذي فيّ.. أنا جالبُ الموتَ إليّ..
أنا مميتٌ نفسي بالخطيئة. الخطيئة المميتة هي في انتفاخ الأنا. وأنا بحاجة إلى من يُخلّصني.
تعلّقت في ما مضى بفكرة مقدرتي على تخليصي لنفسي بمجهودي أي بعقلي أو بفكري أو بتقشّفي وحرماني لذاتي أو بتديّني أو بولادات وميتات متكرّرة أعبر فيها . ما عدتُ قادرا على تقبّل هذه الفكرة لأنّي فشلت في كلّ تجاربي بهذا الإتّجاه.. أنا بحاجة للنعمة. أنا بحاجة له ليخلّصني، وبدونه كلّ محاولاتي ستكون عبثا، إذ سيتعذّر عليّ وحيدا ـ ومهما اجتهدت ـ أن أبلغَ مرتبة طهارة الألوهة المرجوّة للخلاص.
حتى لا أموتَ لا بدّ من تحرّري من الخطيئة. كيف يكون هذا؟
ألأمر بغاية البساطة. هذا يكون بالكفّ عن النظر إلى نفسي. أغلبُ أناي. أنظرُ إلى وجهه فقط. أعيش معه وفيه. لا أرى سواه. أتنسّك.
أتنسّك تعني أعيش الملكوت الآن. أعيش الأبديّة الآن. تدقّ الساعة يكون الآتي بالنسبة لي استمرارية للحاضر.
أو، أغمضُ عينيّ عن نفسي. أراه في وجوه من هم حولي. كلّ الذين حولي. لا أستثني أحدا. أصير موجودا فيهم، ومعهم. أحبّهم. أحبّهم أكثر. دائما أكثر. هكذا أصير غالبا. أنجو من نفسي يعني أنجو من الموت. من العدم.
أحبّهم. أحبّهم أكثر. دائما أكثر. يعني أتشبّه بالسماويّين. أتدرّب على حياة الملكوت. أدخل فيه قبل الإنتقال إليه، أذوق لذّته هنا على الأرض. وإن حان موعد السفر، أنتقل من الملكوت إلى الملكوت. أعبر من النور الى النور. من الأبديّة إلى الأبديّة. لا اخشى شيئا. هكذا ينتفي الموت ولا يكون بعدُ موجودا.
هكذا يحلو الخلود بالمسيح يسوع الذي خلّد جسده بالقيامة من الموت، وخلّدنا نحن، إذ ترك لنا جسده القياميّ ودمَه ليدخلَ إلى جسدنا وإلى دمنا بالمناولة، فنصيرَ نحن أيضا قياميّين، ونعفَّ، ونطهُرَ، ونصيرَ أهلاً للعناق مع النور ولتقبّله هو فينا. فلا نكون بعدُ مشمولين بسلطة الموت ولا نذوقه إلى الأبد.
ولكن متى نقوم؟ أفي اليوم الآخر. أبعد انتقالنا مباشرة؟ أبعد حين؟
أعود إلى قول السيّد لدافن أبيه: ” دع الموتى يدفنون موتاهم “. هو ميّز بين صنفين. هم موتى أنت حيّ. هم للدفن، أنت للبشارة. هم للموت، أنت للحياة..!
وإلى السؤال: هل مات هذا الشابّ؟
جوابي قاطع وحاسم ونهائيّ وجسور ولا مجال للشّكّ فيه: لم يشعر بالموت. ألأبديّة بدأ يعيشها هنا على الأرض. الإنتقال كان له صلة موصولة. محبّته التي وحّدته بالمسيح جعلته يجتاز حاجز الموت. محبّته اخترقت الحاجز، واستَبْقَت الشاب في ملكوته، حيث كان يعيش.
كانت الحياة الأبديّة عنده استمرارا لحياته الأرضيّة.
وأخيرا يحلو لي أن أسأل: وماذا عنّي أنا؟ وماذا عنك أنت، صديقي؟