العقلاء كالطيّبين، يموتون على مهل. يتلذّذون بموتهم، كما تلذّذوا بحياتهم. هم يُعملون الفكر، ولكنّهم لا يُطلقون له العنان، بحيثُ إنّه يتفلّت، فيصير كبرياء تنكّدُ على صاحبها وعلى سواه.
ميخائيل نعيمة عاش العديد من سنيّه على سفح صنّين، في الشخروب، متنسكا، مفكّرا في شؤون الكون، وناقلا تجاربَ خَبِرَها من عمر مديد قارب فيه المئة. مؤلّفاته تزخر كلّها بعبق سلام روحيّ، ينعم به القارئ في كلّ زاوية، وفي كلّ حكاية، وفي كلّ ورقة، حيث الأخلاق والإستقامة لا ينفصلان عن الإيمان بروح كليّة تُهدي روحا بشريّة، إنْ هي بحثت عن هداية..
مؤلّفه ” مرداد ” لا يزال حتّى اليوم بين أفضل عشرة مؤلّفات على المستوى العالميُ. قرأت الكتاب مرّة في نهايات سبعينات القرن الماضي، ثمّ، كلّما تقدّم بي العمر كنت أجد نفسي عائدا إليه. أعود تلبيةً لحاجة لا أجدُ تفسيرا لها، فألقى فيه ما يروي عطشي إلى الحقيقة الكليّة، ولا أتركُه إلّا وقد أدركتُ نورانيّات، كانت قد غابت عن فهمي في قراءاتي السابقة.
ألإحساس بالحاجة إلى مرداد لم أشعر به تجاه نبيّ جبران خليل جبران. لعلّ انتمائي الى مدرسة ميخائيل نعيمة وكمال جنبلاط الروحيّة هو السبب في ذلك. كلّ من يبغي العبور في ظلال الرّوح المتآخية مع عقل مستنير، لا يجوز له أن يترك هذا العالم دون أن يكون قد استضاء بشمعة مرداد، يحملُها معه في رحلته الأخيرة، فتنير له الطريق.
ما يحلو لي أن أوجّه إليه في ذكري لميخائيل نعيمة هي ميتته. ميتته الهنيئة التي كانت خاتمة طبيعيّة لحياة هانئة هادئة، باحثة عن الحق، وازنة كلّ استحقاق دنيويّ بميزان ماورائيّ. الميتة هذه أراها نعمةً ممنوحة لكلّ مَن قرأ الخليقة بعين روحه، أو مَن فهم الكون بذكاء عقله المهتدي. حتّى إنّه ليطيبَ لي الذهابُ أبعد من هذا، فأقول: إنّ كلّ من أدرك المعنى الحقيقيّ للحياة فعاشها ملكوتا أرضيّا، لا يمكن أن تكون لحظة موته إلّا هناء وبهاء، لأنّها لا تكون انتقالا بل استمرارا لحياة واحدة.
من عاش الملكوت على الأرض لا تختلف حياته بعد الموت عمّا كانت عليه قبله. لا حجرجة موت. لا نزاع. لا وداع.. استمرار. تخفّف من عبء المادة. نزع القشرة الصلبة عن اللبّ اللطيف. انطلاق وعناق.
إذا كانت الروح ناشطة وحاكمة للجسد، ومتحكمة بميوله الجامحة، فلا حاجة لها لأن تتحرّر من قيوده لتنطلق. لا حشرجة موت إذا، ولا نزاع بين قوّتين متضادّتين، وانتماءين متنافرَين.
أنا على قناعة بما أقول.. أنا واثقٌ به. موقِنٌ له. متأكّدٌ منه. مخبرٌ عنه. مؤكّدٌ إيّاه.. ثقوا معي يا أحبّة.. ولنبرحْ هذه الفانية يداً بيد…
ميخائيل نعيمة أدرك دعوته. سخّر عطيّته لها. أدّى ما جاء من أجله. عرف حياة الروح في الجسد. عَبَرَ عبورَ مَن أُنعِم عليهم.
أفكّر في هذا، وأسائلُ نفسي عن السبب الذي حتّم حرمانَ جبرانَ من عمرٍ مديدٍ وميتةٍ هنيئة. أتُراه حُرِم، أو حَرَم نفسه منها ؟
ولنا عودة إلى نزاع جبران في سطور أخرى.