[arabic-font]
ميتة جدّي بشاره يتمنّاها كلّ حيّ. كانت زحطة لطيفة، لا أشكّ في أنّها ترافقت مع شعور ناعم بحلاوة سفر آتٍ. كزلقة نقطة ماء عن ورقة قلقاس كانت. سنواتُه الأخيرة عاشها في بيت عمّي شكري، ثم مات شبعانَ من الأيّام.
قال صباحَ يومٍ: لا تغادر البيت اليوم يا إبني. أسمعُ صوتَ المنادي. أظنّ أنّ ساعة السفر قد دنت. لازَمَ عمّي البيت ساعات ، فكان شاهدا على لُطف لحظة الإنتقال.
ليس أجملَ من أن يُعلنَ الإنسانُ عن ساعة موته. أهذا حدسٌ، أم هي صدفةٌ ؟ أقول لا هذا ولا تلك، إنّها النعمة التي يهَبُها الله للطيّبين.
غاب جدّي بشارة مع مَن غابوا من مبارَكي ذلك الزمن. جيلُه عايش حربين عالميّتين، فقاسى التعب وعانى مرارة الجوع. همّتُه نجّتْه في زمن الحرب. يدُه عمّرت ونكشت وزرعت وحصدت وجنت.. وربّت. يدُ البَرَكة في زمن المبارَكين.
قال لي يوما، وكنت لا أزال دون العاشرة: ” والدُك يريد لك أن تتعلّم. هذا حسنٌ، ولكنّ وصيّتي أن ترافقَه إلى أعماله في الحقل، وتتعلّم مهنته أيضا. جورُ الزمان قد يفرضُ عليك أن تزرعَ وتحصدَ لتأكلَ.” وهذا ما كان. لازمتُ والدي. صاحبتُ الأرضَ، وأحببتُ رائحة التراب.
عاش جدّي بشاره حياة الأخيار، ولو إنّه كان مُقِلّا في زياراته للكنيسة. كان محترِما لكهنتها.. عن بُعد.. غير عاشق لطقوسها؛ ولكنّه، على طباعه هذه، نَعِمَ بعِشرة طيّبةٍ مع ربّ الكنيسة ورأسها. قد لا يكونُ أحبّه أكثرَ ممّا أحبّ ولدا وأبا وأمّا، ولكنّه أحبّه. أحبّه، والتزم بكلّ ما وجّه وقال. أعرفُ أنّ ميتَته خيرُ دليل على رِضى السماء.
غاب جدّي ولم يأخذ معه سرَّه. زرع أسرارَه كلّها في أولاده، فكانوا على ما كان. لم يخبّئوا فِعلة، ولا هم استحَوا بسقطة. قناعتي أنّ قدَمَي الواحدِ أو الواحدةِ منهم لم تزلّ مرّة إلى تلك المواقف التي يستحي المرء بها، فيُخفي أخبارَها أو يحمرّ خجلا منها.
أورثَ ذلك الطيّبُ عمّيَّ وعمّاتي ووالدي كلّ ما اكتنزَته نفسُه، فأحببتُهم كما أحببتُه.
جدّي بشاره.. أحسّ فرحتك باستقبال الأحبّة الذين غادرونا.. رجوَتي لربّي الحنّان أنْ يكون لنا لقاء.
[/arabic-font]