موت الغافلين. جبران خليل جبران.

[arabic-font]

كتبت عن ميتة ميخائيل نعيمة. رأيت فيها انتقالا ناعما من حياة هادئة إلى ملكوت موعود. أكتب اليوم عن ميتة جبران خليل جبران. أرى فيها انسلاخا عنيفا عن أرض جاذبة، تأهّبا للدخول إلى عالم تشكّك الرجل به، واحتار عندما تحدث عنه. هو النزاع الرهيب الذي تحدّث عنه ميخائيل نعيمة في كتابه ” جبران خليل جبران “..
عاش جبران حياة التوترالتي حكمتها النزعة الى الإنتقام.
تحدّث عن المحبّة. كتب فيها كلمات من أنقى ما كُتب، ولكنّه لم يخلق انطباعا في نفسي أنّه عاش ما كتب. هو العقل الساعي إلى العظمة.. كتاباته عن المحبة مدارجُ يأمل أن تؤدي به إلى عرش أرضيّ سكن دوما في وجدانه..
ظنّي أن ميخائيل نعيمة كان من أبرز الأمناء الذين كتبوا عنه، فعكَسَ الحقيقة ناصعةً. بين الوفاء لصاحبه بما مثّلَ من طوباويّةٍ نظريّةٍ ضبابيّة، والوفاء للحقيقة بما تمثّلُ من عمق إنسانيّ، تموضع نعيمة في الخيار الثاني، فهوجم واتُّهِم. ظنّي أنّ أحدا لم يفهم جبران كما فهمه ميخائيل. لأنّه عاش النقيض ومارس ما لم يقوَ جبران على ممارسته.

جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، تزاملا وتنافسا ثم افترقا. يتحزّب اللبنانيون لهذا أو لذاك، بعضُهم على قاعدة مذهبيّة، وسواهم على قاعدة مناطقيّة؛ ويساوي آخرون بينهما على قاعدة قوميّة ضيّقة، مستندين إلى فكرة كونهما لبنانيّين مسيحيّين، تتّسع مساحة الوطن على ضيقها لكليهما، ويحتمل تاريخه أيقونتين جديدتين.
ما إن مات جبران وحوّله اللبنانيون إلى أسطورة، حتّى أصدر نعيمة كتابه ” جبران خليل جبران ”  الذي ما زال يُعتبَر، حتى يومنا هذا، ألأفضل بين كلّ ما كُتب عن صاحب النبيّ، ويسوع ابن الأنسان. شاء نعيمة ان يَصدُقَ القارئ في ما يقول. باح بأسرار يعرفُها، بينها ما هو أخلاقيّ. فلم يسلَم من الرجم. أشاد به بعضٌ من النقّاد، معتبرين أنّه استعمل ميزان صائغ أمين في كتابته عن مواطنه وصديقه. إتّهمه سواهم بالإنتقام ممّن اعتقدوا أنّه تفوّق عليه فنّاً وعلماً وإبداعاً. هذا أمين الريحاني يناديه من فوق السطوح قائلا: “شجرتك مسوّسة يا ميخائيل”؛ فكان الردّ القاسي من نعيمة.

كاتب هذه السطور لا يرمي بأيّة حال لرفع هذا أو خفض ذاك. همّه أن يتامّلَ في حياة الرجلين، وثمّ في ميتة كلّ منهما، لعلّ بعضا من العِبر تُستخرَج منها.
في الزمن الذي كان جبران يتعلّق بذراع أمّه راكبا الباخرة في طريقه إلى المجد، مجد أميركا وعظمتها، هربا من الذلّ والفقر؛ كان نعيمة – وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره بعد – يركب الباخرة وحيدا، ممسكا يد رجل غريب، أرسلته له العناية الإلهيّة ليتكفّل به، ويأخذ بيده في رحلته من بيروت الى حيفا للالتحاق بمدرسة الناصرة في فلسطين .

يدُ ذلك التاجر رأى فيها الصبيّ يدَ السماء. تشبّث بها، ثمّ لم يتركْها يوما في غربته التي طالت على الأرض إلى ان قاربت المئة عام؛ ولا غرابة أن نراه يموت ممسكا بها، باسما، واثقا بأنّها لن تتركه في رحلته الكونيّة الأخيرة، للقاء وجه المحبوب…
هذه هي اليد التي حيّرت جبران، فاستمات في بحثه عنها. ولكنّه، في شكّه ونقمته، لم يقع عليها أبدا. مات وحيدا حزينا في نزاعه.

ثمّ في ما بعد..

في الوقت الذي كان جبران يغرف من إرث فلاسفة التنوير، ويسطو على كتابات نيتشه ليكتب كتاب النبي. في الوقت الذي كان يضرب مجذافه في موج الشكّ والنقمة، منصرفا إلى التأمّل المسكوب بخبايا الحيرة وفقدان الرؤية الصافية. في الوقت الذي كان يحمل المعول ليهدم على غير هدىً حتى دون ان يكوّن رسما للبناء. في الوقت الذي كان يحوّل المسيح إلى مصلح إجتماعيّ يعنى بشؤون الناس على الأرض، وينظّم حياتهم لما فيه خيرهم الدنيويّ. في هذا الوقت بالذّات، كان نعيمة ينهل من روحانيّات الأدب الروسيّ في جامعة بولتافا. ثمّ ينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركيّة حيث حصّل عِلمَها وجنسيّتها. وهناك، في هدأة التأمّل والثقة يستعين مرّة ثانية بيد الرحمة الإلهيّة، ويستحلفها في لحظات ضعفه وتشكّكه أن تطمئنَه وتوضّحَ له صورة القادم من أيّامه، وما إذا كان سينجو من الحرب التي جُنّد لها في الجيش الاميركي القادم إلى أوروبا لحسم الصراع في الحرب العالميّة الثانية. لم يتأخّر جواب السماء. جاءه ناصعا حاسما. تكرّر الوعد.
قالت له الرحمة: لا تخف.. أنا معك.. لن أتركك. كن أمينا إلى الموت..
كان أمينا إلى الموت.. تحقق الوعد.. لم تتركه حتى في لحظات الموت..!

هذه هي اليد التي حيّرت جبران، فاستمات في بحثه عنها. ولم يقع عليها أبدا، لأنّه احتار في ما يريد. هام في مشاعر النقمة والتأمّل المسكوب بالحيرة وفقدان الرؤية. نبيّه كان واعظا يواسي الناس ويشجّعهم على سلوك الدرب الصالح. لم يرَ فيه، ولم يجعل منه الأب الحنّان المتألّم لألم أبنائه والدامع على بؤسهم. لذلك مات يتيما وحيدا، وكان نزاعه رهيبا…

تذكّرني أيّام جبران الأخيرة وميتته بآخرة فريدريخ نيتشه وميتته. شارباه يذكّرانني بشاربيه. ولنا عودة إلى هذا الموضوع، إن شاء الربّ لنا أن نعود…

نعيمة وجبران.. إختلفا في إيمانهما. وفي حياتهما. وفي ميتتهما. صفحتان، نقرأ في كلّ منهما سرّا عميقا من أسرار السماء…!

[/arabic-font]