معصية “حواء الأولى”.

[arabic-font]

يقول يسوع:

ألم يُكتَب في سفر التكوين إنّ الله قد منح الإنسان السيادة على كلّ شيء ما عدا الله وملائكته؟
ألم يُكتَب فيه بأنّه خَلَقَ المرأة لتكون شريكة الرجل تُقاسِمهُ فرحه والسيطرة على الكائنات الحيّة؟
ألم يُكتَب فيه أنّهما كانا يستطيعان أن يأكلا من كلّ ما في الجنّة ما عدا شجرة معرفة الخير والشرّ؟
هل سألتم أنفسكم عن هذا، أنتم يا من تلهثون وراء أمور كثيرة تافهة ولا تعرفون أن تسألوا أنفسكم عن الحقائق السماويّة؟

كم من الحقائق تخبركم عنها نفسكم لو كنتم تجيدون الحوار معها؟
لو كنتم تحبّونها كما يحبّها الذي يمنحكم الشبه مع الله والذي هو الروح بما أنّ نفسكم هي روح. أيّة صديقة عظيمة تجدون في أنفسكم لو أحببتموها بدل خيانتها حتّى القتل!
أيّة صديقة عظيمة وسَنيّة، كنتم ستستطيعون محادثتها عن الأمور السماويّة، أنتم يا من تتوقون إلى الكلام وتفسدون الواحد الآخر بصداقاتكم. هذه الصداقات، إن لم تكن شائنة -وهذا ما يحدث أحياناً- فهي تكون تقريباً دائماً غير ذات جدوى، ولا تعطي الفرصة للتعبير عن ذاتها إلّا بسيل من الكلمات الباطلة والضارّة، والدنيويّة على الدوام.

ألم أقل: “من يحبّني يحفظ كلامي، وأبي يحبّه، وإليه نأتي، وعنده نجعل مقامنا؟”
النفس في حالة النعمة تمتلك الحبّ، وبامتلاكها الحبّ تمتلك الله، أي الآب الذي يحفظها، والابن الذي يسوسها، والروح الذي ينيرها. حينئذ تمتلك المعرفة والعلم والحكمة. تمتلك النور.
فكّروا إذاً، أيّة محاورات رائعة تستطيع ربط نفسكم بكم؟
إنّها هي، تلك المحاورات التي ملأت سكون السجون، صمت الزنزانات، صمت الصومعات، وسكوت المتّقين العاجزين. إنّها هي التي قوّت المساجين في انتظار الشهادة، والنسّاك في البحث عن الحقيقة، والمتوحّدين التوّاقين إلى معرفة مسبقة عن الله، وتقوى العاجزين للرضوخ، ولكن ماذا أقول في حبّهم لصليبهم؟

لو كنتم تعرفون سؤال نفسكم لكانت تحدّثكم عن الدلالة الحقيقيّة والدقيقة، الواسعة وسع العالم لهذه العبارة “أن يُسيطِر” والتي هي كالتالي: “ليسيطِر الإنسان على كلّ شيء، على مستوى حالاته الثلاث: الحالة الدنيا، الحيوانيّة. الحالة الوسطى، الأخلاقيّة. والحالة السامية، الروحيّة. وأنّها كلّها توصله إلى نهاية واحدة: امتلاك الله.” امتلاكه عن طريق استحقاقه بواسطة هذه السيطرة المطلقة التي تجعل كلّ قوى الأنا خاضعة، بل وخادمة لهذا الهدف الوحيد: استحقاق امتلاك الله.
كانت ستقول لكم إنّ الله مَنَعَ معرفة الخير والشرّ، لأنّه قد مَنَحَ الخير مجّاناً لخليقته، أمّا الشرّ، فلم يرد أن تعرفوه، لأنّه ثمّرة لذيذة في الحلق، ولكنّها ما أن تصل بعصيرها إلى الدم حتّى تحمل الحرارة القاتلة وتؤدّي إلى عطش محتدِم لدرجة أنّه كلّما شرب أحد من هذا العصير الكاذب عطش أكثر.

سوف تعترضون: “لماذا وَضَعَه فيها؟” ولماذا؟ لأن الشرّ قوّة وجِدَت بذاتها بشكل آنيّ، كما كثير من الآلام التي تصيب الأجسام الأكثر سلامة.

لوسيفوروس مثلاً كان ملاكاً، وكان الأكثر جمالاً وبهاء بين الملائكة. كان روحاً كاملاً، ولكنّه فقط أدنى مرتبة من الله. ومع ذلك وُلِدَت في كيانه النورانيّ أبخرة الكبرياء التي لم يبدّدها، بل على العكس كثَّفَها بأن حضنَها. ومن هذا الاحتضان ولد الشرّ. وقد كان موجوداً قبل أن يوجد الإنسان. وطَرَدَ الله ذلك الملعون الذي حضن الشرّ ودنّس الجنّة، خارج الفردوس. إلّا أنّه بقي الحاضن الأزليّ للشرّ. وبما أنّه لم يعد بإمكانه تدنيس الفردوس، فقد دنَّس الأرض.

فهذا النبات الرمزيّ يستخدم للكشف عن هذه الحقيقة. قال الله للرجل والمرأة: “تعرفان كلّ أسرار الخليقة، ولكن لا تتعدّيا على حقّي بأن أكون خالق الإنسان. ولإكثار الجنس البشريّ سيكفيكم حبّي الذي يسري فيكم بدون فجور، وبفورة المحبّة فقط سوف يُخلَق آدميو الجنس البشريّ الجدد. أعطيكم كلّ شيء ولا أحتفظ سوى بسرّ تكوين الإنسان.
أراد الشيطان أن يسلب الإنسان بكارة الذكاء تلك، وبلسانه، لسان الحيّة، مدح وداعب أعضاء وعيني حواء بإحداث ردود فعل وإثارة لم يكن الأبوان الأوّلان يعرفانها، لأنّ المكر لم يكن قد سمّمها بعد.

حوّاء “رأت”. وعندما رأت أرادت أن تجرّب. فكان استيقاظ الجسد. آه! لو نادت الله! لو جَرَت إليه لتقول له: “أبتي، أنا مريضة. مداهنات الحيّة أثارت فيّ الاضطراب.” لكان الأب طهّرها وشفاها من سورتها، وكما كان قد بثّ فيها الحياة، كان باستطاعته أن يبثّ فيها براءة جديدة بأن يجعلها تنسى سمّ الحيّة، وحتّى بأن يضع فيها مقت الحيّة، مثل الذين، بعد إصابتهم بمرض ما وشفائهم منه، يحتفظون باشمئزاز غريزيّ تجاه هذا المرض. ولكنّ حوّاء لم تتوجّه للآب: بل توجّهت صوب الحيّة، وقد استعذبت هذا الإحساس: “وبرؤيتها أنّ ثمّر الشجرة كان لذيذاً للأكل، جميلاً للعينين، حسناً للنظر، قطفته وأكلَت منه.”
ثمّ “أدرَكَت”، وكان الخبث قد اخترق أحشاءها بلسعته. فرأت بعينين جديدتين، وسَمِعَت بأذنين جديدتين أخلاق وأصوات البهائم، ورغبَت بها رغبة مجنونة. بدأت الخطيئة وحيدة وأكملتها مع شريكها. لذا جاء الحكم على المرأة أعظم.

بواسطتها أصبح الرجل متمرّداً على الله وعرف الفجور والموت. بسببها لم تعد له السيطرة على ملكاته الثلاث: ملكة الروح: لأنّه سمح للروح بمخالفة أمر الله؛ ملكة السلوك الأخلاقيّ: لأنّه سمح للأهواء بأن تتملّكه؛ وملكة الجسد: لأنّه انحدر به إلى مستوى قوانين غرائز البهائم. تقول حوّاء: “الحيّة أغوتني”، ويقول آدم: “المرأة أعطتني الثمّرة وأنا أكلّتُ منها”. وحينذاك ترتبط الشهوة الثلاثيّة بممالك الإنسان الثلاث.

ما من شيء غير النعمة يستطيع أن ينجح في تخفيف وطأة قبضة هذا الوحش عديم الرحمة. وإذا كانت حيويّة، حيويّة جدّاً، وتظلّ دوماً أكثر حيويّة بإرادة الابن الوفيّ، فستتوصل إلى ذبح الوحش وإلى عدم بقاء ما تخشاه. لا طغاة داخليّون: المعرفة والجسد والأهواء. ولا طغاة خارجيّون: العالم وجبابرة العالم. لا اضطهاد ولا موت.
فكما قال بولس الرسول: “أنا لا أخاف أيّاً من هذه الأشياء، ولا أحرص على حياتي أكثر من ذاتي، إنّما فقط كي تتمّ رسالتي والكهنوت الذي تلقّيته من الربّ يسوع، لأشهد لإنجيل نعمة الله.”»

أنشودة الإله الإنسان. فالتورتا / 1 – 24.

[/arabic-font]