مُستشارون وعظماء.. !

 كلّ أسبوع أخبار جديدة عن تبديل لمستشارين في البيت الأبيض الأميركي. على شاشات العرب سخرية وتهكم. العقل العربيّ مصرّ على رؤية التغيير كدليل صارخ على ارتباك الرئيس وعدم صلاحيته لهذا المنصب. إنها الشاشات العربيّة البارعة جدا في فنّي التقليد والتهكّم، وقليلا في ما هو سواهما.
أحبّ أن نرى في تغيير المستشارين ظاهرة صحيّة تشي برغبة الخلاص من التعفّن. أحبّ أيضا أن نعطي الرئيس الأميركي فرصة ما، لعلّه يستطيع – ولو بمزاجيّة خطرة – أن يعيد الإعتبار للقانون الدولي، حتى على حساب بعض الضحايا الذين استفادوا من اختلال خطِر لتوازنات دقيقة في معيار السلم العالمي. ألأمر يستحق المحاولة، ولو بشيء من المخاطرة..!
المستشار الذي يخيب عليه أن يذهب، أيّا كانت مؤهّلاته الأكاديميّة ومرتبته العلميّة. ألمهمّ أنّ التغيير المتكرّر حمل جون بولتون الى البيت الأبيض. هو هاوٍ للضرب. يريد ان يحلّ كلّ مشاكل العالم بالتأديب. ضرب ايران والاسد وكيم جونغ أون، وضرب كلّ من يقف في وجهه من مستشارين خاملين. وزير الدفاع ” المؤمن” جيمس ماتيس وُفّق عندما استقبله على مدخل البنتاغون بملاحظة طريفة إذ قال له: “سمعت أنّك الشيطان المتجسد. كنت راغبا بمقابلتك”.
الشيطان إذا في البيت الابيض..!
وفيمَ الغرابة؟
وهل هذا الشيطان دخل إلى أورشليم الجديدة، أو إلى بيت الملائكة، أم تراه في بيته وبين أهله؟
ومن هو هنري كيسنجر ؟ كيسنجر الذي ما زال ينصح الرؤساء والذي كان قد ناصح الرئيس نيكسون وسواه عندما استوطن في البيت الأبيض لسنوات كانت إحدى ثمارها دمار لبنان والتحضير لما يجري حاليا في الشرق الأوسط.
لا أتحرق رغبة في تصوير البيت الأبيض مغارة شياطين، فان اسم زبغنيو بريجنسكي اقترن بمساعي السلام التي قادها الرئيس جيمي كارتر، ولا شكّ بأنّه كان مشجعا عليها إن لم يكن العقل الذي برمجها.

عندنا في لبنان ثبّت أخوت شانيه نفسه وبجدارة كأفضل مستشار لحاكم لبناني، ولا زال اسمه على كلّ لسان، كظاهرة فريدة لأنجح مستشار في تاريخنا. إستشارة أخوت شانيه لمعت وتقدّمت على كلّ ثرثرات المعلّمين الذين كان سيّد قصر بيت الدين يحيط نفسه بهم، إذ ارتأوا يومها جرّ المياه من نبع الصفا الى بيت الدين بالقصب الفارسيّ. الفكرة الحسنة ما التمعت إلّا في ذهن  إبن شانيه ” ألأخوت “. قال للمير: ” يا سيدنا، كل واحد من زلمك ينبش قبرو”. وهكذا كان، فصبّ شلال نبع الصفا في بيت الدين، وارتوت كل الأراضي بينهما، ولا تزال.
اليوم في عصر صراع الحضارات وتناطح الديانات وهرولة هذا العالم المبعثر إلى حيث لا ندري، أحنّ إلى رؤية واحد من شانيه في كل قصر من القصور الثلاثة التي ترتجف الارزة فوق أبوابها. مَن يدري، لعلّ ترياق علّتنا المستعصية في هذا الحنجور..!

قرأت مؤخرا كتاب عزيز المتني ” كمال جنبلاط: أسئلة وحقائق”. وُفّقت بفيض وفير من الكلام المذهّب بين طيّات هذا الكتاب. لم ألتق مستشارا واحدا لكمال جنبلاط في مسيرته السياسيّة، وهذا لم يفاجئني على الإطلاق، لأنّ الكبار العارفين الواصلين لا يحتاجون لمستشارين. هم مستشارو أنفسهم. وطوبى لمن حالفه القدر فكان لكمال جنبلاط مريدا أصاب من فيه عسلا معرفيّا حلو المذاق.

ويحرّض الحديث عن العارفين الواصلين مركز العشق في روحي، فتثب بي إلى بُعد بعيد. إلى مسيح جاء مرّة إلى هذه الأرض، فنزع اللعنة عنها وحمل النعمة لها وقلب كلّ المقاييس فيها، وهو لم يُحِط نفسه بمستشارين، ولكن بتلاميذ صاروا رسلا عندما صَلُب عودُهم واشتدّ ساعدُهم. قرأت الأناجيل الأربعة مرّة ثمّ مرّات، وقرأت ما سجلته “ماريا فالتورتا” في دفاتر قالت عنها إنّها رؤى، وفي نيّتي أن أقع على سؤال واحد ألقاه يسوع الناصريّ على تلاميذه طامعا بنصح أو استشارة، فما وُفّقت في ذلك.
الناصريّ كان هو الأمير وهو السيّد وهو المعلّم وهو المستشار. كان مستشار نفسه ومستشار كلّ من رافقه في مسيرته على الأرض. طوبى لكلّ من اختاره مستشارا له سواء كان رئيسا في البيت الأبيض او متسوّلا على رصيف..!