مزار بونا يعقوب

ليس مفيداً إحياءُ النقاش الماضويّ المهجوسِ بالجدوى من بناءِ المزارات. هذا نقاشٌ بات اليومَ مُضجراً ومُملاً. وليس الهدفُ من هذه السطور تحويلَ هذا العمل إلى ارتكابٍ، أو الإيلامَ بالتسخيفِ أو الإنتقاد. هدفي إثارةُ العزمِ للبدءِ بنقاشٍ جديٍّ يهدفُ إلى جعلِ بناءِ الحجرِ خطوةً، على أملِ أن تتبعَها أخرى تكونُ هي الحُجّة والعماد .

بَنَوه بإخلاص وتفانٍ. تطلّبَ العملُ الكثيرَ من الكدِّ والمشقّةِ والعناءِ والسعي والجهد. لا أخالُ أنّ المحبّةَ قد أعوزتهم في ما فعلوا. لا أشكُّ في ذلكَ على الإطلاق. المساهمون في العملِ كثرةٌ، ولكنّ رئيسَ البلديّة ناجي عبّود، ونائبَه أخا كاتبِ هذه السطور جريس مراد، عمِلا بشراسةٍ استدعت تساؤلاتٍ من ألسنٍ وأُتبعت باتّهامات. تساؤلات عن سرِّ هذا الإندفاع الذي لم يصلْ فهمُها الماديّ المحدود إلى إيجادِ تفسيرٍ له..

بنينا مزاراً لبونا يعقوب قالوا. لم أفهمْ كُنهَ هذا الكلامِ ومرماه. وتسابقتْ الى مخيّلتي أسئلةٌ أخشى أن أكونَ ظالما إن أنا بحتُ بها.. هل يتطلّعُ بونا يعقوب إلى بناءٍ من نوعيّة أخرى؟ تساءلتُ وسألتُ ولم أصلْ إلى جوابٍ يشفي.
بناءُ المزاراتِ أهو هروبٌ من حيرةٍ إيمانيّةٍ إلى ما هو أسهلَ بيعاً وأسلسَ تسويقا؟
هل نبني ما نبنيه من منطلقٍ إيمانيٍّ، أم من منطلقٍ جاهويّ وسياسيّ، يطغى عليه مجدٌ دنيويٌّ وغنىً أرضيٌّ، وتهيمنُ عليه الرغبةُ في تركِ أثرٍ عمرانيٍّ  سياحيّ للأعينِ الناظرةِ في السنواتِ القادمات؟
الحقَّ الحقَّ أقولُ إنّي زرتُ ذاك المكانَ، فما أثارتْ زيارتي فيّ انبثاقاً نورانيّاً للفضاءِ القدسيِّ الذي عاشه بونا يعقوب. أيكونُ سرُّ هذا التجمّدِ الروحيّ فيَّ أو في المكان؟
زرتُ ذاك المكانَ في مناسبةٍ أخرى، فما تلمّستُ عبوراً نفسيّاً من عالَمٍ دنيويٍّ وحقيقةٍ أرضيّةٍ، الى عالمٍ روحيٍّ وحقيقةٍ سماويّةٍ. أيكونُ مكمنُ هذه التورية الإيمانيّةِ فيَّ أو في المكان؟
وللعزيزينِ اللذينِ أوردتُ اسميهما في مطلع الكلام أتوجّه بسؤالي: أما تشعران الآنَ بعد إتمام هذا الإنجاز المشكور ب “فرحٍ حزينٍ” ينغّصُ التوازنَ الإيمانيَ في فكرِ كلّ واحدِ منكما؟
وحضرَني قولٌ لواحدٍ من آباءِ الكنيسةِ الأوائلِ، ما استطعتُ إلّا إلغاء نفسي أمامه. قال: “هذا إغراءٌ من الشيطان أن ندفعَ الكنيسةَ إلى مجدٍ عالميٍ ظانّينَ أنّها تقوى به”.
وحضرني قولٌ آخرلليابانيّ موريهيه أويشيبا: ” لا يحبّ الإلهيّ أن يسكنَ في مبنى أرضيّ. يحبّ اللهُ أن يكونَ في العراء. إنّه هنا في هذا الجسدِ بالذات. كلُّ واحدٍ منّا هو عالمٌ مصغّرٌ ، مزارٌ حيٌّ.”

وهل فهمُنا كافٍ لقولِ بولسَ ” أنتم هيكلُ الله”؟ وفي موضعٍ آخرَ ” المسيحُ فيكُم بهاءَ المجد “.
وإنْ كنّا نحنُ هيكلََه، وإنْ كانَ هو يحبُّ أن يسكنَ فينا، فما بالنا لا ننصرفُ بهمّةٍ ونشاطٍ إلى بناءِ هذا الهيكلِ بالذات، وتوطيدِ أسُسَه، وزخرفةِ جدرانَه، وتمتينِ أبوابَه؟ أتُرانا فَهِمْنا ما رمى إليه بولس في كلمتِه المحوريّة ِهذه ؟
وإنْ كان المسيحُ فينا، فلماذا إسكانُه في مواضعَ أخرى؟
الهروبُ إلى بناءِ الحجرِ أما يكونُ نتيجةً لعدمِ الفهمِ الكاملِ لما فعله السيّدُ على الصليب، أوالذهولَ أمام هذا الحدث؟
أعطانا سيّدُ الحياةِ ذاتَه، أفلا نعطيه ذواتَنا؟ يريدُنا سيّدُ الحياةِ له بالكليّةِ، أفنعطيه حجارةً مرصوفةً مزخرفةً ؟

جميلٌ أن نعمّرَ الأرضَ، ولكنّ الأجملَ أن نُخضعَها. جميلٌ أن نبنيَ، ولكنّ الأجملَ أن نختارَ المكانَ الصحيحَ للبنيان وماهيّتَه. جميلٌ أن نزخرفَ ما نبني، ولكنّ الأجملَ أن نعرفَ ما إذا كانت هذه الحجارةُ المرصوفةُ قد أرضَتِ السيّدَ، أو أرضَت بونا يعقوب، وما إذا كان هذا ما يلحُّ في طلبِِه منّا.

تقديري للأيدي التي بنت، وللقلوب التي خفقت، وللأنفس التي جَهدت. ولكنّ قناعتي أنّ الِسرَّ هو في الإنسكاب، وليس في زخرفة البنيان. السرُّ يكمُنُ كلُّه في انسكاب السيّد في قلبي، فيصيرَ إلهيا، وينسكبَ بدوره في قلوبِ آخرين فتصيرَ إلهيّة. ينسكبُ بوسيلتين: المحبّة والكلمة. ولا أُقدّمُ الواحدةَ على الأخرى.

تقديري للأيدي التي بنت، وللقلوب التي خفقت، وللأنفس التي جَهدت. ولكنّ نفسي توّاقةٌ إلى بناءٍ من حجرٍ آخرَ. أنْ تُبنى عائلةٌ لبونا يعقوب، فتحملَ اسمَهُ، وتُثمرَ ذرّيّةً له. ولعلّ قلوبَ أفرادِها تكونُ هيكلاً يسكنُ فيه السيّدُ، وحصناً منيعاً لا ينفُذُ الشرّيرُ إليه، وحُضناً دافئاً لكلَّ المحبّةِ وكلّ الحنانِ العابقِ بهما قلبُ بونا يعقوب..!
أخشى أن يتحوّلَ المزارُ إلى موروثٍ متجمّدٍ. وأرى العائلةَ حركيّةً متحدّيةً للصمت، وابتداعاً لثقافةِ الإيمانِ الحيويّ على معناه الحداثويّ الناريّ لا البدائيّ الباردِ حدّ الجليد..!

بالعائلةِ، وبها فقط نُسهمُ في بناءِ الملكوت، ونستعجلُ عودةَ سيّدِنا، فتكونَ الرياسةُ على كتفيه هو، لا على أكتاف مغتصبيها…!