لم أكنْ ملحداً.. صرت مؤمناً — 3

العذراء مريم.

هي، في القرآن، العذراء أمّ النبيّ عيسى؛ إبنة عمران وفاقوذا التي ولدتها في سنّ متأخّرة، وقد كانت عاقرا. إصطفاها الله وطهّرها، ثم أرسل لها جبريل ليبشّرها بحبلها وولادة عيسى، ليكون آَيَةً لِلنَاس ورحمةً.

هي، في الكتاب المقدّس، أمّ الإله؛ حوّاء الثانية، المنتصرة، المطيعة، العابدة؛ إبنة يواكيم وحنّة التي ولدتها في سنّ متأخّرة، وقد كانت عاقرا.

الخلاف الفاضح بين القصّتين يتأتّى من نسب مريم في الإسلام إلى عمران، وتعريفها بكونها أخت هارون، فمَن هما؟

عمران كان والد النبيّ موسى، وهارون أخاه، ومريم أخته.

يقول معلّمو المسيحيّة إنّ القرآن على خطأ، ويرمون مؤلّفَه بتهمة الخلط بين مريم أخت موسى ومريم أمّ المسيح – علما أنّ الفترة الزمنيّة الفاصلة بينهما تبلغ  1450 سنة – وهم يستندون إلى هذا السرد المُستَغرَب في دفاعهم عن مقولة كون القرآن من صنع بشر، وليس وحيا إلهيا.

يدافع دعاة الإسلام عن صدق روايات قرآنهم بحجج كثيرة تبدو لي مستغرَبة أحيانا، إذ هم يلجأون – في ما يلجأون إليه – إلى فرضيّة أن تكون أمّ مريم قد رُزقت بولد، بعد ولادة ابنتها البكر، أسمته هارون. ويُصرّون على أنّ اسم أبيها عمران، مدّعين أنّ الكتاب المقدّس قد لحقه تحريف وتبديل، عن سوء أو حسن نيّة، بينما يستحيل برأيهم تحريف كلام الله ( القرآن ) الكافل حمايته.

قناعتي، بعيدا عن المواقف الإيمانيّة، أنّ حجج العلماء المسلمين في دفاعهم عن استحالة خلط القرآن بين المريمتين يبقى ضعيفا جدا، إن حلّلناه على ضوء المعطيات الموضوعيّة. نحن بحاجة لدحض وقائع عدّة وردت في الأناجيل، ليكون ممكنا التسليم بهذا السرد الغريب.

أولا، وجب علينا تغيير اسم والد السيّدة العذراء واسم والدتها. ثانيا، وجب التسليم بفرضيّة أن يكون لها أخ اسمه هارون، وهذا ما لم يُشِر إليه مصدرٌ واحد. إضافة إلى ذلك، وجب أن نتناسى ونهمل هذه المصادفة الغريبة التي فرضت تجمّع هذه الشخصيّات كلّها ( مريم وهارون وعمران )  ضمن عائلة واحدة،  ثم تكرار تجمّعها في عائلة ثانية بعد زمن قاربت سنواته ال 1500. وإن فعلنا كلّ ذلك، يكون مَثَلنا كمثل من يجمّع صورا، لا يربط بينها رابطٌ، فيقطّعها ويجمّعها، في محاولة لتركيب صورة واحدة جديدة منها، فإذا هي مصطنعة، منفّرة، مفتقرة الى الحياة.

إلى ذلك، يبقى التساؤل الثاني: إن كان من مصلحة مؤرّخي المسيحيّة تبديل الأسماء، فهل من مصلحتهم تزوير كلّ الوقائع التي أحاطت بمولد المسيح وظروفها، لتصير مخالفة بالكامل لسرد القرآن لها؟ ثمّ إن سلّمنا جدلا بتحوير وتحريف الكتاب المقدّس، فهل إنّ تحريف رواية ولادة المسيح في مغارة جرى قبل الإسلام؟ لماذا، وبأيّ قصد؟ أإستباقا لرواية القرآن عنها؟

وتبقى هذه الحادثة نقطة خلافية لا أمل بتذليلها دون تدخّل سماويّ حاسم…

قناعتي أن العذراء مريم هي فعلا حوّاء الثانية. هي تلك الشخصيّة الفريدة الإستثنائيّة التي جاءت لدور كان في فكر الربّ أزليّا، فأدّته بنجاح وأمانة، واستحقّت ما استحقّت.

قناعتي أنّ الجدل القائم بين المذاهب المسيحيّة، حول شراكة العذراء في الفداء أو عدمها، لا مبرّر له، وهو لا يبدّل شيئا في المشهد العام. إيماني بشراكة مريم مع ابنها في فداء البشريّة، أو رفضي لهذا القول لن يغيّر الكثير في المسيرة لاكتساب الرحمة الإلهيّة. هذا علما، أنّ مجرّد القبول بمبدأ كون المسيح هو الإله المتجسّد سبب كاف، للإعتراف بدور ما للعذراء أدّته لإتمام الفداء. أليست هي المختارة التي حملت الإله المتجسّد في أحشائها تسعة أشهر، أليست هي الأمّ التي شهدت تألّم ابنها أمام عينيها على الصليب. أليست هي المجاهدة التي عوّضت سقطة حواء، ومحت بقوّة طاعتِها عارَها ؟

قناعتي أنّ قول القائلين من الطوائف المسيحيّة بأمومة مريم لأبناء وبنات أخَر غير السيّد المسيح واهٍ، ولا ركيزة منطقيّة له. إن سلّمتُ بأنّ يسوع هو الإله المتجسّد لفداء البشر وفتح باب السماء، المغلق عليهم منذ خطيئة آدم، يصير صعبا عليّ، بل مستحيلا، الإقتناعُ بأنّ الرحم الذي حمله عجائبيّا، بكل الطهر والنقاوة، عاد ليحمل أولادا آخرين بفعل شهوانيّ، هو ذاته فعل حوّاء.

قناعتي وإيماني: مريم هي نقيض حوّاء. هذه أصلحت بعين الله ما أفسدته تلك. دورُها لم يقتصر فقط على أمومتها للمخلّص. هي أمّ المؤمنين بالمعنى الضيّق للكلمة. هي ليست أمّا للذين قالوا نؤمن، بل للمجاهدين، المطهِّرين أرواحهم، الحافظي أجسادهم من كلّ دنس. هي أمّ التوّاقين الساعين لحالة النقاوة الضائعة والعفّة المفقودة. هي أمّ الخطاة التائبين المهتدين؛ وشفيعة المعترفين، الطالبين للغفران.

أمَّ النور. مريم. طوباكِ..!