أُدركُ أن عداوتَنا معه نتيجةٌ لجهلِنا له. لا نعرفُ ما يخبّئُه لنا بعد الرحيل، وإن عرفنا تخفّ حدّةُ العداوة لأنّ حدّةَ الخوف تتلطّف. قد تكونُ على موعد مهم فتحسَّ رهبةَ اللقاء . وقد تكون على سفرٍ اخترتَه فتأخذَك أبضا رهبةُ الحدث. الموتُ سَفَرٌ لا خيارَ لنا فيه. لا يُلغى ولا يؤجّل. المجهولُ دوما مرهوبٌ، والرجفةُ إشارةٌ إلى عدم الفهم..
العارفون قالوا إنه نومٌ عميق، كما أنّ النومَ موتٌ خفبف. عندي، هو عبور. من الأسر الى الحريّة. ولكنّ السرَّ بقي سرا، وبقيت الرهبةُ أمامه رهبة.
أحبّ أن أعودَ دوما إلى ما كتبه النبيّ داود في مزموره: ” إذا سرتُ في وادي ظلّ الموت لا أخشى شرّا لأنّك أنت معي . عصاك وعكّازك هما يعزيانني.”
لا أخشى شرّا.. روعةُ هذا الكلام تُنعشني. تُشعرني بثقة واطمئنان. أنا لست مرعوبا ولكنّني أخشى. داود لا يخشى. أين السرّ في ذلك؟
أيكونُ السرُّ في كوني لا زلتُ ملهيّاً بهذه الدنيا ومجذوباً بمغرياتها؟ لعلّي لم أقتنع بعد بقول بولس: ” لا تشاكلوا هذا العالم” ؟
أو يكمُنُ السرُّ في كوني لا زلتُ أعبدُ اللهَ في أفكار، ولم أبلغ بعد درجةَ العشقِ الناريِّ لوجهِه؟
أحبّ كثيرا التأمّلَ في قول السيّد لأحدهم: «اتْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلًا وَأَدْفِنَ أَبِي».” “فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ».”
ولكن، نحنُ الموتى، كيف نحيا؟ بالعبور. بالولادة الجديدة. بالموت معه لنقوم معه. بالملكوت. بواحدة من هذه، أم بها مجتمعة؟
قلت لابني جان بول بالأمس: إذا لبّيتُ نداءَ ربّي، رافقني بالروح في رحلتي، ولا تبخلْ عليّ بالصلاة. أكثِر منها ولا تملّ.
قال: أنت؟ بحاجة للصلاة لتخلص؟
قلتُ: إن كان بولس قد كتب: “ألخطأةُ الّذين أوّلُهم أنا”؟ فماذا أقول أنا؟ ومَن أكونُ أنا؟
صلِّ لي يا بنيّ، ولا تسمح لتلك العادات الفارغة والطقوس اللاهية من تعازٍ وسواها تسرقك منّي.
صلِّ لي، لعلّك تراني، أو أرى نفسي، متكئاً على صدر السيّد في العشاء السريّ المستدام، مصغياً إلى قلبه، فاهماً ما لا يزال ملتبساً عليّ، ذائقاً طعمَ القيامة. صلِّ لي كثيراً حتى لا أكونَ بعد الإفتراق، ولو لطرفة عين واحدة أمام العدم. أو موكولاً لأحدٍ سواه. ودِدتُ ألّا أموت.
شهوتي أن أكونَ منذ لحظة الإرتحال الأولى في الرؤية.
صلِّ لي كثيرا يا إبني..!