لا يا صديقي. ليس هذا هو الإيمان.

لا يا صديقي، ليس الإيمان هو التصديق بوجود العالم الروحي وبالنبوّات والقديسين، وليس الإعتراف بالمعجزات على اختلاف مصادرها. وليس الإلتزام بتأدية الطقوس على اختلاف وجوهها. وليس المثابرة على صوم وصلاة وترداد طلبات وتكرار تشكرات.
ليس الإيمان تأديتي لفرائض وتبرئة لذمّتي أمام سماء تحاصرني بعيون يقظة، وتحيط دقائق حياتي بمراقبة دائمة.
وما الإيمان إذا؟
بقناعتي هو أن تعملَ مئة وعشرين سنة على بناء فُلك مصدّقا أنّ طوفانا سيغمر الأرض، وأنت تدعو الناس للتوبة، وتتحمّل سخريتهم وهزأهم بك.
هو أن تحملَ السكّين وتتأهب لقطع رقبة ابنك، وتقديمه أضحيّة لسماء لا ترى منها إلّا اللون الأزرق، وأنت على ثقة برحمتها.

هو أن ترفعَ عصاك أمام البحر الأحمر، واثقا بقدرة ربّ على شقّ المياه لتعبر فيها مع شعب جرّار.

هو أن تنامَ ملء جفنيك في السجن، وأنت على علم أنّ الصباح سيشهد قطع رأسك بالسيف أو رجمك بالحجارة.
هو أن تنزلَ من الزورق. عيناك في عيني من قال أنا هو.. وتمشي ولو خطوتين على الماء.. ولو خطوتين.
هو أن تدخلَ إلى مجلس نيرون، وتفولَ له: هاأنذا جاهز . أصلبني:  وبالمقلوب.

هو أن تشربَ المسموم، وأنت على ثقة بأنّك لن تموت.

هو أن تجلسَ في غرفتك، وتغوصَ ملحاحا في صلاة تأمّليّة؛ آخذا على نفسك ألّا تغادرَها، إلّا متى استجاب الله لك، شفاء من مرض أو فرجا من كرب أو حتى قيامة من موت.

هو أن تعرفَ موعد اغتيالك – في الستين ومقتولا – فلا تهرب منه، وتقول: لا أدّعي إنّي غير خائف من الموت، ولكنّي أحسّ اشتياقا لوجه المحبوب.

هو أن تحاورَ من لا يرى رأيك ويعتقد معتقدك. تحاوره ولا تملّ.. حتّى ولو رفض الإقتناع بما تراه، ولو عجزت عن الإقتناع بما يراه. تجلس بجانبه. تتلو أنت صلاتك كما تراها، ويتلو هو صلاته كما يراها.

هو أن تكفَّ عن القول لأيّ إنسان آخر لا يعتقد معتقدك: لي الجنّة ولك النار. لأنه هو أيضا ابنٌ لله، ولا يمكن لله أن يدوس بهذه البساطة ابنا من أبنائه، ولو أنّه أحبّ واحدا أكثر ممّا أحبّ آخر…

هوأن تحتملَ مجالسة من ثقُل ظلّه وأقرف كلامُه، على أمل أن يفتح الربّ قلبه .. على الإيمان..

ألإيمان ليس الثقة فقط، ولا التصديق فقط، ولا الشهادة فقط.
هو كلّ هذا، ولكن بذلك الشغف الخفيّ، وتلك اللهفة الملحاحة التي تُحَسّ ولا توصَف..
هو ذلك العشق للنور، وذلك الغرام به، وذلك الإنجذاب الشفّاف إليه.

هو أن تسموَ في عشقك الى حدّ أن تهَبَ كُلَّكَ إلى “المحبوب الأوحد” فلا يبقى لكَ منكَ شيء.

وماذا يقول لي الإيمان؟
يقول: أغلِقْ كلّ الكتب. رتّبَْها على رفّ مزخرف في غرفة أنيقة.. ثمّ لا تحفظْ منها كلّها إلّا :
” إذا فسد الملح، فبماذا نملّح؟ “.
” أحبّوا بعضَكم بعضاً، كما أنا أحببتُكم”.
” وإن كان لي كلّ الإيمان حتى أنقلَ الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئا”.

هذا التحدّي.  أنت له؟