[arabic-font]
«السلام لكم جميعاً! بالتأكيد الموت يكدّر الأغنياء الشباب، الأغنياء بالمال فقط والشباب بعدد السنين. أمّا الأغنياء بالفضيلة والشباب بفضل طهارة أخلاقهم، فالموت ليس مؤلماً لهم. الحكيم الحقيقيّ، ما أن يبدأ استخدام العقل، ينظّم سلوكه بحيث يحصل على السكينة في موته.
الحياة هي تهيئة للموت، كما أنّ الموت هو تهيئة للحياة الأعظم. فالحكيم الحقيقيّ، منذ اللحظة التي يدرك فيها حقيقة الحياة والموت، الموت للقيامة، يعمل جاهداً وبشتّى الوسائل ليتخلّص من كلّ ما هو غير نافع والاغتناء بكلّ ما هو نافع، وليعرف الفضائل وأفعال الصلاح ليكون له مخزون خير أمام الذي يدعوه ليمثل أمامه ويدينه، ليكافئه أو يعاقبه بعدل كامل. الحكيم الحقيقيّ يعيش حياة تجعله أكثر بلوغاً في الحكمة من عجوز، وفتوّة أكثر من مراهق، ذلك أنّه إذ يعيش في الفضيلة والاستقامة، يحفظ لقلبه نضارة مشاعر لا تكون أحياناً لدى أكثر الناس شباباً.
كم يكون الموت آنذاك لطيفاً! أن يحني المرء رأسه التعب على صدر الآب، ويستغرق في عناقه، ويقول عبر سحب حياته التي ولّت: “أحبّك، رجائي فيك، وبك أؤمن”، يقول ذلك لآخر مرّة على الأرض، ليقوله بعد ذلك، ذاك السعيد “أحبّك!” طوال الأبديّة وسط روائع الفردوس.
فكرة الموت قاسية؟ لا.
مجرّد قرار لكلّ الهالكين. وهي ليست ثقيلة الضيق إلاّ على الذين لا يؤمنون ويحملون الكثير من الأخطاء. فعبثاً يفسّر الإنسان الضيقات التي لا اسم لها لمن يحتضر ولم يكن في حياته صالحاً بقوله: “هذا لأنّه لم يكن يريد الموت بعد، لأنّه لم يفعل أيّ خير، أو هو فعل خيراً قليلاً جدّاً، وقد كان يريد العيش بعد ليصلح الأمور”. باطلاً يقول: “لو طال به العيش، لكان حصل على مكافأة عظيمة إذ كان سيفعل أكثر”. فالروح تعلم، أقلّه بشكل مبهم، كم هو الزمن الممنوح لها. زمن هو لا شيء مقارنة بالأبديّة. وتدفع الروح الأنا بأكملها للعمل. ولكن، يا للروح المسكينة! كم مرّة سُحقت، دُعست وأُسكتت كي لا تُسمع كلماتها! هذا يحصل عند من يفتقرون إلى الإرادة الصالحة. على العكس، فالمستقيمون، منذ طفولتهم يصغون إلى الروح، يطيعون نصائحها وهم في نشاط دائم.
شاباً بعدد السنين غنيّاً بالاستحقاقات كذا يموت القدّيس، أحياناً منذ فجر حياته. وبزيادة مائة أو ألف سنة، لا يمكنه أن يكون أكثر قداسة ممّا هو عليه، ذلك أنّ حبّ الله والقريب الممارَسين تحت كلّ أشكالهما وبسخاء تامّ، يجعلانه كاملاً. ففي السماء لا يُنظَر إلى عدد السنين، بل إلى الطريقة التي عاش بها المرء.
يقيم المرء الحداد على الجثث؛ يبكي عليها. ولكن الجثّة لا تبكي. يرتعد لوجوب الموت، ولكنّه لا يهتم للعيش بأسلوب يجنّبه الرعدة ساعة الموت. ولماذا لا يبكي المرء ويقيم الحداد على الجثث الحيّة، الجثث الأكثر حقيقة، أولئك الذين، كما في القبور، يحملون في أجسادهم نفساً مائتة؟
ولماذا أولئك الذين يبكون لمجرّد التفكير بأنّ على جسدهم أن يموت، لا يبكون على الجثّة التي في داخلهم؟ كم من الجثث أرى، وهم يضحكون ويمزحون ولا يبكون على ذواتهم!
كم من الآباء والأمّهات والأزواج والإخوة والأبناء والأصدقاء والكهنة والمعلّمين أراهم يبكون بغباء من أجل ابن، زوج، أخ، أب، صديق، مؤمن، تلميذ، ماتوا في صداقة جليّة مع الله، بعد حياة هي إكليل زهر من الكمالات، ولا يبكون على جثث نفوس ابن، زوج، أخ، أب، صديق، مؤمن، تلميذ مات بالرذيلة، بالخطيئة، وقد مات إلى الأبد، فُقد إلى الأبد، إذا لم يكن قد تراجع! لماذا عدم العمل على قيامتهم؟
هذا هو الحبّ، هل تعلمون؟ وأعظم حبّ. آه! يا للعبرات الغبيّة على تراب يعود تراباً! عبادة أصنام العواطف! رياء العواطف! ابكوا، ولكن على النفوس الميتة لأولئك الذين هم الأحبّ إليكم. اعملوا على إعادتهم إلى الحياة. وأتحدّث بشكل خاص إليكنّ أيّتها النساء اللواتي تستطعن الكثير على الذين تحببنهم.
أنشودة الإله الإنسان . 5 / 73
[/arabic-font]