في بدايات عهود الحرب اللبنانية، وعندما كانت طريق القدس تمرّ، زورا وظلما، عبر مدينة جونية. يومها قرأت مقالا كتبه غسّان تويني في جريدته ” النهار”، وذكّرني به حديثا نصّ كتبه سمير عطالله في الشرق الأوسط. عنوَنَ تويني مقالته : لبنان صار بدون سقف. في الاسبوع الذي تلاه كان العنوان: وبلا جدران..
منذ ذلك اليوم ونحن نسكن في العراء . نحتال على يومنا ليكونَ لنا يومٌ آخر. هدمنا سقفَ منزلنا بمعاولنا، وتكفّل ” الإخوة ” بهدم جدرانه بصواريخهم.
سمعت مرّة ركنأ من أركان الطائف.. إسمُه ادمون رزق.. يقول: لعنة لبنان اسمُها ميشال عون. حاذى الرجل في ما قال الصواب. لعلّها اللعنة الكبرى. أقول: للبنان لعنات. ولها أسماء وأسماء. منهم من وعى واعتذر، ومنهم مَن لا يزال يكابر في غفوته.. ومنهم مَن يعاند في كبوته..
لعنة لبنان تحلّ اليوم بجنوبه. الزلزال يقع فيه والنكبة تصيب أهله. الجنوبيون يشتاقون الى بيوتهم، أو إلى ما بقي من بيوت. يشتاقون إليها ويخشَون أن لا يرَوها بعدُ. وانا أخشى معهم. بيوتُهم.. أوطانُهم الصغيرة.. باتت بلا سقوف.. وبلا جدران..
أيّ معنىً للوطن وقد هُدم البيتُ فيه؟ أيّ معنىً للوطن وقد ديست كرامةُ أهله وباتوا في الخيام على الأرصفة؟ وما زلتَ تسمعُ من يقول إنّه حريصٌ على السيادة الوطنيّة ولن يفرّطَ بها..
في بداية ثمانينات القرن الماضي جاء مَن يعرض على أحد مشايخ الوطن البائس تسويةً لتحاشي حرب الجبل المشؤومة. قال.. وكنت آنذاك أصغي اليه عبر موجات الراديو، وانا في السيارة من بيروت الى الجنوب الذي لجأنا إليه فاحتضن لجوءنا..قال شيخنا في كبوته الكبرى: ” فلتحصل الحرب وليربح الأقوى “. حصلت الحرب وحلّت اللعنة الكبرى على يد مَن استدعاها ..!
في نهاية الثمانينات جاء مَن يعرض على رئيس الجمهوريّة آنذاك، وكان اسمُه أمين الجميّل، تسويَةً يتخلّى فيها عن بعض الإمتيازات. قال لستُ أنا مَن يتخلّى عن امتيازات المسيحيّين فليفعلها سواي، ومنّ علينا وقتذاك بميشال عون .. حلّت اللعنة الأكبر وكان ما نعرفُهُ جميعا.
اليوم تتكرّر اللعنة، ولكن على يد حمقى آخرين فيهم شَبَهُ الأوّلين. قال المبعوثون: فكّوا الارتباط مع حرب الآخرين وتحاشَوا اللهيب المستعر.. كان الجواب الذي لا يُنتسى: أنتم تخشَون بأسنا.. لن نفعل وليكن ما يكون..! وحلّت اللعنة وكان ما كان من نكبات..!
مشايخنا وحكماؤنا وجنرالاتنا وسادتنا، سادوا علينا رغما عنّا. هم صنّاعُ بلاوينا وأربابُ لعناتنا..
أعتاب بيوتنا هم هدموها. أياديهم ملوّثة بدمائنا..
وما زال يطلُع علينا كلّ يوم وجهٌ من الوجوه المقيتة. ويقول لنا إنّه لن يفرّطَ بالسيادة الوطنيّة..
أيّة سيادة سيادتَك..؟
أنتم لستم أهلَ سيادة، ياسادة.. بل أهل دماء وأهل رياء. أنتم أهلُ ركام وخراب ودمار..
إفترسوا بعضُكم بعضا بصمت.. ودعونا نحتال على قدَرِنا، علّنا نعبرظلال هذا الرعب الرهيب..