[arabic-font]
لو دار في خاطر ” إيمانويل كانط ” في العام 1768 أنّ الحائط الذي شرع في بنائه سيرتفع ويرتفع على أيدي مَن تبعوه من فلاسفة الغرب، لتردّد في عمله؛ أو لربما كان ليدركَ مخاطره، فيهدمَه قبل رحيله عن هذا العالم. ” كانط ” لم يُنكر وجود الخالق، ولكنّه قدّم عقله على إيمانه، واعتبر أنّ ما لا يُدرَك بالحواسّ يستحيل البرهان عنه بالمنطق والعقل. قال: أريد برهانا. أنا لا أستطيع أن أعرف ما إذا كان الله خلق الكون، لأنّ أدوات المنطق التي أملكها لا تصلح لاكتشاف ما هو فوق، او للبرهان عنه.
الحائط الذي بناه ” كانط ” حصر الدين ضمن سور الأخلاق، واعتبر أنّ هذه لا تحتاج لرسائل سماويّة من أجل نشوئها. هي مكتفية بذاتها بحكم طبيعة العقل نفسه الذي يعتبر أنّ فكرة الكائن الأسمى صدرت من الأخلاق وليس العكس.
تحقيق فكرة “شعب الله المختار “، يقول ” كانط “، تكون عن طريق إرضاء الله بالسيرة الأخلاقيّة الحسنة، بحسب قوانين موحّدة. لتحقيق فكرة ” شعب الله ” وملكوته في الأرض، لا بد من أن تجتمعَ هذه الجماعة الأخلاقية على فكرة موحدة حول قوانين أخلاقية يشتركون بها جميعاً، وأن تصفوَ هذه القوانين من كوادر التعصب الديني والخرافة.
تأسيس الدين على الأخلاق، برأيه، كفيل بتجنيب البشريّة كلّ أنواع الحروب وبخاصّة الدينيّة منها. علاقة الله بالإنسان تكون أخلاقيّة، وفقط أخلاقيّة. هو يرضى عن الإنسان بموجب الحكم على سيرته الخلقيّة.
العقل، بحسب اعتقاده، كفيل بالتمييز بين دينين: الدين ألأوّل يهتم بإقامة الصلوات والإهتمام بالمظاهر في الصوامع والكنائس ؛ والثاني دين أخلاقي يقوم على التصرفات الحسنة، ولا ينتظر من الإله أن يريَه الطريق التي ترضيه، بل يسعى لأن تكونَ أعماله سببا لرضى الله وخلاصه. هذا الدين لا يهتمّ بالخوارق والعجائب المستهينة بالعقل الذي يجعل الانسان عارفا لنفسه بنفسه، فيغيّر ما بداخله من الشر بذاته.
إنّها المداميك الأولى للحائط الرهيب الذي بناه العقل للفصل بين الله والإنسان. هذا الحائط علا وعلا بعد ” كانط ” على أيدي رجال تشككوا أوّلا بنظريّة الخلق ثمّ سخروا منها، وتشكّكوا تاليا حتّى بوجود الخالق وأنكروا وجوده. آمنوا بالإنسان فقط، وبقدراته غير المحدودة وبحرّيّته الخلّاقة؛ فرفعتهم الثقافة الحديثة وقدّسهم العلم ونسب إليهم، عن ضلال، الفضلَ في النقلة العلميّة النوعيّة التي شهدها القرن العشرين، دون الالتفات إلى كلّ المضارّ التي نشأت عنها.
حائط ” كانط ” زاد المدماك الثاني فيه ” أوجست كونتيه ” الذي أسّس كنيسة في لندن، مبدأها الفرح بالحياة دون الإنتماء الى الله. المدماك الثالث تعهّد ” تشارلز داروين ” بتشييده، فبرع في زرع فكرة بنوّتنا لمعشر القردة؛ ثمّ سلّم المشعل ” لكارل ماركس ” الذي زاد المدماك الرابع فخلق دين الدولة والامة والبروليتاريا، وجعل عبادة الله أفيونا للشعوب وزفرة للعقول البائسة؛ هذه الشعوب التي يجب ان تنظر فقط إلى ما يوفر لها الرفاهية على هذه الأرض؛ وانتهى به المطاف بفرض عبارات طقوسيّة ذات معاني علميّة غامضة، مستبدلا بها طقوس العبادة الكنسيّة التي حوّلها رجال الدين أيضا إلى قوانين وضعيّة.
وكرّت سُبحة البنّائين المتعاقبين على رفع الحائط من ” فريدريخ نيتشه ” المختال بشاربيه الغضّين، وهو الذي مجّد القوة والشجاعة في الإنسان، واستخفّ بالمبادئ المسيحيّة القائمة على الرقّة والتواضع والتسامح. إلى دائرة مفكري فيينا الذين طوّروا مبدأ ” كونتيه ” واعتبروا أنّه لا حقيقة إلّا تلك المطلقة التي يمكن إثباتها . ولا ننسى المدماك الإشدّ صلابة، والأكثر أذيّة، الذي شيّده ” جان بول سارتر ” ومعاونوه في أواسط القرن العشرين بنقله الجحيم إلى هذه الأرض، وجعله ممَثَّلا بالآخر الذي هو بجواري. أنا جحيم الآخر، قال.. وهو جحيمي.
وأخيرا نأتي الى المخلّفات النتنة لهذه الفلسفات المبتَكرة، والتي تشخصنت ” بهتلر، وستالين، ولينين، وموسوليني “، وسواهم من الأباطرة الذين أفرزتهم المدنيّة الحديثة في الشرق والغرب، فابتكروا وسائل غير مسبوقة في إدارة شؤون الشعوب، استنادا الى آراء بدأت عقليّة وانتهت إلحاديّة.
أبرز المضارّ التي ألحقها حائط “كانط ” بالمجتمعات الحديثة قد تكون تلك التي أصابت الكنيسة، أو بعضا من رجالها. هؤلاء الّذين أرادتهم السماء رسلا لكلمتها، تشكّك الكثيرون منهم بنظريّة الخلق الكتابيّة؛ فخجلوا بها، وفشلوا في الدفاع عنها، وعجزوا عن إقناع الناس بما باتوا هم أنفسُهم متشكّكين به. بهذا، يكونون قد هدموا تراثا إيمانيّا ضخما، وسلّموا القيادة لروّاد العقل المتفلّت، دون إبداء أيّة مقاومة.
[/arabic-font]