أنا في القاطع الشمّيس. في بيت خالي مخايل، الذي هو الآن بيت ابن خالي وعمّتي الياس، رفيق صباي وفتوّتي وشبابي، ورفيق كلِّ قفزة زمن في هذا العمر الذي ما خلتُه مديدا إلى هذا الحدّ..
أجلس في فناء الدار الخارجيّ. نظري ناحية القاطع الضلّيل. عن يميني شتولُ الزنبق. عن يساري الغالي على قلبي الياس.
من هنا راقبتُهُ صامتا..
راقبتُ بونا خليل وهو في طريقه إلى الكنيسة. وكان الزمنُ ربيعا. وكانت الشمس تحنو على الأرض.. وكانت صبيحة خميس الصعود. وهو اليوم الذي يقابل يوم الميلاد. في هذا جاء السيّد الى أرضنا. في ذاك الخميس غادرها..
راقبتُ بونا خليل. سبعينيّ يسير الهوينا، بجبّته الطويلة السوداء، ولحيته الغضّة البيضاء. خرج من داره منذ لحظات قليلات. هو الآن على الطريق التي اعتدنا تسميتها طريق مرهج. في مواجهة الموضع الذي نحن فيه.
يسير الهوينا قلت. على غير عادته في المسير. أتراه بدأ يعاني من آلام الشيخوخة هو أيضا، أو لعلّه أمضى الليلَ يقظاً؟ أيكونُ قد أمضاه في عبادة وصلاة؟ هل يصلّي المحترم لأولاده في خلوات تعبّده؟ أسئلةٌ تسابقت إلى مخيّلتي. ودِدتُ لو أنّه يذكرني في صلواته الإنفراديّة هذه، أنا الشقيُّ الجائعُ وليس مَن يُشبعني من خبزه..! أفلا تكونُ أنت يا بونا المعجنَ الذي لا يفرغ؟ أطعِمْني وزِدْني من جسدِ الذي قال “ أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء “.
كنت أراه بدقّّة ووضوح رغم بعد المسافة. عيناه إلى التراب. فكرُهُ في ما وراء الغيم والهواء. أتُراه في حديثٍ سرّيٍّ يحلو له في سيره ؟ أو هو يتأمّل؟ أو يقيسُ المسافةَ الهائلةَ بين هذا الترابِ الجاذبِ الآسرِ الخادعِ، وتلك السماء التي لم أشكَّ يومها أنّه يعرفُ الكثيرَ عن أسرارِها؟
بجبّته السوداء التي أحبُّ أن أراه فيها، والتي رفع طرفها ليتيسّرَ له المسير، توقّفَ. حدّقَ في الطريق أمامَه. إنحنى. إلتقط كتلةً صغيرةً خِلتُها في بداية الحالِ حجرا. لكنّها في الحقيقةِ سلحفاةٌ صغيرةٌ تسعى لاجتياز الطريق. تأمّلَ فيها. تمتمَ. مجّدَ اللهَ في ما صنع. خطا خطوتين يُمنة. أمّن الصغيرةَ على حافّة المنحدر. هزّ رأسَه عجباً. وعاودَ المسير.
بلغ في سيرِه طريقَ الباروك. وقف متردّدا. تلفّت يُمنةً ويُسرة. كأنّي به يخيّرُ نفسَه بين سلوكِ طريقَ حيّ البلاطة، او التخفيفِ على نفسه واختصارِ المسافةَ باتّجاهِ اليسار. ثمّ في ما يبدو أنّه الخيار، اجتازَ البونا طريقَ الباروك، وسرّعَ الخُطى لسببٍ ما. وأذهلَني الخوري خليل في ما فعل..
توقّفَ فجأةً من حيثُ لم أحتسبْ.. مدّ يدَه إلى جيبِ الجبّةِ الكبير. أخذ منها صليبَه الصغير. إستدارَ يُمنة حتى صار بمواجهة المكان الذي أتواجد فيه. إمتشق صليبَه الخشبيَّ بيمناه، سدّد ناحيتي. أطلق إشارة المباركة ثلاث مرّات. ثمّ أعاده إلى جيبه، في حركة تشي بطيبتِه وصدقِه. ثمّ أكملَ سيرَه بالخُطى المتسارعةِ ذاتِها.
حرتُ في تفسيرِ حركةَ بونا خليل. أتُراه قد رآنا وشاءَ أن يغمرَنا ببركتِه، أو يشجّعَنا على ملاقاته إلى اجتماعِ الكنيسة؟ أولعلّها ملائكتُه هي التي وشوشته ليستديرَ ويمسحَ بصليبِه دمعةً؟
حيرتي لم تلازمْني طويلا. توقّفَ المحترمُ ثانيةً. استدارَ ناحيةَ حيّ البلاطة. باركَ مجدّدا. ثمّ ناحيةَ الحيّ الفوقاني، وغمره بالبركة ذاتِها. أدركتُ حينَها ما غفلتُ عنه. بونا خليل رجلّ مبارك. يحبُّ خاصّتَه، ويغارُ عليها، ويحرصُ على تسييجِ حدودِها، وتحصينِ بيوتاتها، تحسّبا لهجمات ” الكذّاب أبو الكذّاب “. ويريدُ لكلّ فردٍ منها أن يخلُصَ؛ كما أحبّ السيّدُ خاصّتَه، وأراد لكلّ فردٍ منها أن يخلُصَ.
تابع بونا خليل سيرَه باتّجاه الغرب. وتابعتُ أنا فعلَ مراقبتي لكلّ حركة تلوح منه، وتنصّتي على كلّ نَفَس يصدر عنه. ها هي سيّارةُ دفعٍ رباعيٍّ بيضاءُ تتوقفُ جنبَه. رجلٌ مُلتحٍ وراءَ المقود، ومعه أفرادُ عائلتِه. لا أخالُ الرجلَ من سكّان ضيعتنا. أسمعُ صوتَه ولو بخفوت: “باركنا يا بونا بأن تركب معنا في السيّارة، ومنوصلك مطرح ما قاصد”. قافُه منحوتةٌ رنّانةٌ لا تتركُ مجالا للشك أنّه من المحبوبين المُحبّين، جيرانِنا بني معروف.
لم يتردّد بونا خليل. هو يفقهُ جيداً كُنْهَ قولِ السيّدِ “ أنتم نورُ العالم”. و” إن سلّمتم على إخوتكم فقط فأيَّ فضلٍ تصنعون. أليس العشّارون أيضا يفعلون هكذا “.….شمّرَ البونا وباركَ وركب.
طرِبتُ لِما رأيت، وشكرتُ الربّ على نعمته التي منّ بها علينا. وكدتُ أدخل مع بونا خليل إلى الكنيسة، حيث يُخرجُ المحترمُ رعيّتَه من بشريّتها، حين ينتزعُ الكلمةَ من الكتاب، ويصيّرُها لحما ودما؛ فتلتحمُ البيعةُ بساكني السماء، ويلتحمون هم بها، في لعبةٍ سرّيّةٍ لا تشبهُ أيّةَ لعبةٍ أخرى.
كِدتُ أدخلُ مع بونا خليل إلى الكنيسة، قلتُ. ولكنّني لم أفعل. لقد فوّت عليّ إبني جان بول شهوةَ قلبي هذه، إذ فتح بابَ غرفتي، وناداني بصوتٍ خافتٍ: الساعةُ تجاوزت العاشرةَ يا بيي. ركوة القهوة على النار…
فتحت عينيَّ على الشمسِ التي ملأت غرفتي. فركتُهما بيديّ. أعادني جان بول إلى الواقع الذي لا أستلذّ. بونا خليل المحبوب ُما كان لمّا التقيتُه في المرّة الأخيرة بجبّةٍ سوداء، لكنّه كان بطقمٍ إفرنجيٍّ رماديٍّ غامق. وما كان بلحيةٍ بيضاءَ، بل حليقَ الدقن ناعمَها مع سكسوكةٍ مهضومة. وكان هو الذي يمتطي دفعاً رباعيّا أبيضَ ويوجّهُه أنّى أراد..!
بونا خليل. أحبُّه. ولكنّه فخّ الأحلام الذي نفشلُ غالبا في مقاومة الرغبة بسردها..!