العراك الأخير. ( 1 )

[arabic-font]

المُجاهر بإيمانه مُهان.
إذاً، الصورة باتت واضحة. ليس ثمة من ينجو من التجريح والإهانة إن هو عدّ العدّة للجهر بشهادة إيمانيّة أسَرَتْ جوارحه وملأت عليه فكره. المهمّة هذه ثمرة لإحساس وجدانيّ شريف، بدعوة ما، وجب الإستجابة لها. وهي أيضا إنصات لطيف لنداء هامس يقول: عرفتك وأحببتك مذ نقشتك على كفّي. التافهون وحدهم يتنكّرون لهذا النداء أو يستخفّون به.
والمهمة هذه خفيفة بنظر إنسان اليوم – وارث آدم الترابيّ-  الذي جاهد ليصنع له مجدا أنساه مجد الله. خليفة آدم ووارثه هذا يكتفي في الغالب بالمراقبة والإصغاء الخبيث محاولا إخفاء ابتسامة تافهة، في تفاعل مصطنع مع حديث يدور عن الروح العامل في العالم.
المجد الذي يصنعه وارث آدم لنفسه اليوم هو حفلة عرس مؤقتة، يحتفل فيها بإنجازات وهميّة، ثمّ يخرج منها مخمورا، باحثا عن موضوع يسلّي عقله ليملأ فراغا هائلا يعيش فيه. هو ذاته الفراغ الذي عاشه الإنسان القديم فقاده يومها إلى إعلاء برج بابل ليصل به الى السماء، ويصنع لنفسه مجدا. وهو الفراغ الرهيب الذي ملأ حياة آدم فوقف ينظر من بعيد إلى عدن بعد خروجه منها بفعل اللعنة..!
أمّا من يجاهر بمكنونات نفسه الإيمانيّة، ويشهد للحقّ، ويصدّق نظريّات الخلق والوعد، ويقبل النبوّات والفداء، فلا بأس له ببعض الكراهيّة وبعض الإحتقار. ولو وشوشة وغمزا.
سذاجته وهروبه إلى الخرافات جعلته مستحقا لهذا الأجر. هو أيضا يجوع إلى الحقيقة ويسعى لملء الفراغ الرهيب. على طريقته الغيبيّة. هكذا يقول وريث آدم في سرّه.
لا شيء أكثر سخافة من تموضع المرء في ” عقلانيّة ” شوفانيّة، ركنُها الأساس إتّهام أبله، واستخفاف عاجز عن الإتيان بغير ذلك الكلام السخيف القاصر عن قول أكثر من أنّ القرود هم جدودنا ويستحقّون التبجيل على فضلهم علينا… وأنّ الكون نتج عن انفجار عظيم نسعى لاكتشاف أسراره…

نهاية حقبة..
لستُ مطالَبا أن أتّخذ موقفا من هذا الجدل. ولكنّي أقول في سرّي: دع سفهاء القوم يحملون الراية ولا تعرض عليهم خدماتك. سفهاء القوم هؤلاء كانوا دوما غبّ الطلب، وفي صدارة المجالس. قاموس تشبيحهم الفكريّ كان دوما جاهزا، فاستعملوا مفرداته. وسحروا بكلامهم الشعريّ أو بلاغتهم النثريّة المزيّفة.
سفهاء القوم الذين نُرغَم الآن للإصغاء إليهم بيننا اجتازوا يوما البحر الأحمر وراء كليم الله موسى، ثمّ استعجلوا غيابه حتّى يصنعوا العجل الذهبيّ ويعبدوه. هم يريدون عبادة ما يرونه بأعينهم. سفاهة أحجية صنّاع عجول عصرنا الذهبيّة لا تقلّ عن سفاهتهم.

اليوم وبعد أكثر من ألفي عام على الوثبة السمائية الأرضيّة الهائلة، صار بإمكان المرء أكثر أن يفسّر تلك الوقائع التي أبهرت، وما كان للإنسان أن يفسّر ظواهرها بل أن يؤمن بها. اليوم أرى العقل سلاحا مؤهّلا أكثر من ذي قبل للرد على العقل. العقل المهتدي يردّ على العقل التائه.
وأرى في العلم ذاته الجزمة القادرة أن تدوس أحجية العلم التي فقدت مهمّتها، بعد استحضارها كلّ أسلحتها لخوض المعركة الأخيرة الخاسرة.  يكفيني السؤال عن أسرار الحمض النووّي ( DNA ) التي تتّسع الإكتشافات في مجاله كلّ يوم، لأتخيّل الحملات الهذيانيّة للذين لا زالوا يبشرّون بكونٍ نشأ وارتقى فأنتج الإنسان من سلالة القرود.
وإن جاز لي الحديث عن الدماغ البشريّ العجيب، ففيه السرّ الأكبر والحجّة الكبرى. التسعون مليار خليّة عصبيّة التي تتواجد في الدماغ وتترابط بشكل عصيّ على الفهم. ال220 تريليون نقطة اشتباك عصبيّ التي توفّر نظام الإتصال الدماغيّ المتكامل. أهي الطبيعة التي خلقت كلّ هذا؟
وإن ارتضينا مقولة تطوير الطبيعة للدماغ البشريّ فيبقى السؤال العصيّ الأكبر: لماذا تطوّر الطبيعة دماغا بقدرات هائلة لا يحتاج الإنسان لأكثر من خمسة بالمئة منها في أقصى الحالات؟ أما كان الأجدر بنظام النشوء والإرتقاء أن يطوّر للإنسان من الخلايا العصبيّة بمقدار ما يحتاجه فقط؟
المُجاهر بإيمانه مُهان. ولكن، إن هو طرح هذه الأسئلة المُحرِجة وألحّ على أجوبة مقنعة، فهل يبقى مُهانا؟
وإن هو قدّم الأجوبة القاطعة التي يعجز عنها منظّرو الإرتقاء، فهل يبقى مستحقا للإهانة؟
باعتقادي أنّ الدماغ البشريّ بقدراته التفكيريّة والتحليليّة والتسجيليّة الهائلة لم يُخلق لورثة آدم الذين لا يحتاجون إليها. بل لآدم إذ كان يحتاجها قبل أن يخالف إرادة الخالق.
القول أنّ مُنظّري النشوء والإرتقاء ومُنكري نظريّة الخلق فقدوا بريقهم صار اليوم حقيقة. المهمّة الكبرى التي أوكلوا أنفسهم بها تسقط تدريجيا كلّما عجزوا أمام سؤال، فتحجّجوا بنظريّة بلايين السنين القادرة على الإعجاز وفعل كلّ شيء.
العراك الأخير آت. ولنا في هذا كلام آخر..!

 

[/arabic-font]