الصلاة التي رفعها يسوع على يوسف اثناء فراقه للحياة.

لا يُسمَع سوى طيران الحمام وهديله، وحفيف الأوراق، وخرير المياه، وفي الغرفة تَنَفُّس المحتضر.
يدور يسوع حول السرير، يأخذ كرسيّاً ويُجلِس مريم قائلاً لها فقط: «أمّاه.» ثمّ يعود إلى مكانه، ويأخذ يوسف بين يديه. كان المشهد حقيقيّاً لدرجة أنّ حزن مريم قد انتَزَعَ دموعي. ثمّ ينحني يسوع على رأس المحتضر ويتمتم له بمزمور. ولكنّني، في الوقت الحاضر، لا أستطيع القول أيّ مزمور هو.
إنه يبدأ هكذا:

«”ارحمني يا رب لأنّني وضعتُ فيكَ رجائي…
من أجل القدّيسين الذين على الأرض حَقِّق كلّ رغباتي…
سأُبارك الربّ الذي يمدّني بنصائحه…
الربّ معي جميع أيّام حياتي. إنّه على يميني لكي لا أتزعزع…
كذلك قلبي يبتهج ولساني يتهلّل؛ وجسدي كذلك يستريح في الرجاء.
لأنّكَ لن تهمل نفسي في مقام الأموات ولن تسمح بأن يرى صفيّكَ الفساد.
ستدلّني على طريق الحياة وتملأني حبوراً برؤية وجهكَ”.»

يعود يوسف لينتَعِش كلّية. ويبتسم ليسوع بنظرة أكثر حيويّة ويشدّ على أصابعه. ويردّ يسوع بابتسامة على ابتسامة يوسف، وبملاطفة على ضغط أصابعه. ومنحنياً فوق أبيه المزعوم، يُكمِل بهدوء:

«”ما أَحَبّ مساكنكَ يا رب.
تشتاق وتذوب نفسي إلى ديار الربّ.
العصفور يجد له مأوى واليمامة عشّاً لفراخها. من لي بمذابحك يا ربّ.
طوبى لساكني بيتكَ… طوبى للذين يجدون فيكَ قوَّتهم.
فإنّ في قلوبهم مراقي إليكَ، يجتازون وادي الدموع إلى المكان الذي اخترتَه.
اسمع أيّها الربّ صلاتي…انظر يا الله والتَفِت إلى وجه مسيحكَ…”»

يجهش يوسف وينظر إلى يسوع ويحرّك شفتيه كما ليباركه، ولكنّه لا يستطيع. من الـمُلاحَظ أنّه يُدرِك ولكنّه لا يستطيع الكلام، ولكنّه مع ذلك سعيد من خلال نظرته المليئة بالحياة والثقة بيسوعه.

ويتابع يسوع:
«”آه! رضيتَ يا ربّ عن أرضكَ، ورددتَ سبي يعقوب…
أرِنا يا ربّ رحمتكَ وهَب لنا خلاصكَ.
أريد أن أسمَع ما يتكلّم به الربّ الإله في داخلي. بالتأكيد إنّه يتكلّم بالسلام لشعبه ولأصفيائه والذين يميلون بقلوبهم إليه.
نعم. خلاصكَ قريب… ومجدكَ يسكن الأرض… الرحمة والحقّ تلاقيا والعدل والسلام تلاثما. الحقّ من الأرض نَبَتَ والعدل تطلّع من السماء.
نعم. الربّ يمنح الخير وأرضنا تعطي ثمارها. العدل يَسلك أمامه ويضع في الطريق خطواته.”»

«لقد رأيتَ هذه الساعة أيّها الأب وقد تَعِبتَ من أجلها. لقد آزرتَ في قدوم هذه الساعة، والربّ سيكافئكَ. أقول لكَ ذلك.» يُضيف يسوع ذلك وهو يمسح دمعة فرح تنسكب ببطء على خد يوسف.

ثمّ يُتابِع:
«”أيّها الربّ اذكر داود وكلّ عنائه.
كيف أَقسَمَ للربّ، لن أَدخُل خَباء بيتي، لن أعلو إلى سرير مضجعي، لن أعطي لعيني وَسَناً ولا أجفاني نوماً ولا لروحي استرخاء إلّا أن أجد للربّ مقاماً، مسكناً لإله يعقوب.
قُم أيّها الربّ إلى راحتكَ، أنتَ وتابوت عهدكَ المقدّس.

(تُدرِك مريم وتذوب في الدموع)

لِيَلبس كهنتكَ البرّ وليُرنِّم أصفياؤكَ.
من أجل داود عبدكَ لا تحجب عنّا وجه مسيحكَ.
أقسَمَ الربّ لداود ولن يخلف لأُجلسنّ من ثمرة بطنكَ على عرشكَ.
الربّ اختاره لإقامته.
هناك أنبت لداود قدرة، أهيّئ لمسيحي سراجاً مُشتَعِلاً.”»

«شكراً لكَ يا أَبَتِ باسمي وباسم والدتي. لقد كنتَ لي أباً بارّاً وقد خَصَّكَ الربّ برعاية مسيحه وتابوت عهده المقدّس. لقد كنتَ المنارة المشتعلة لـه ولثمرة أحشاء مقدّسة، كان لكَ قلب محبّة. اذهب بسلام يا أبي، لن تكون أرملتكَ دون عون، لقد رَتَّبَ الربّ كلّ شيء لكي لا تبقى وحيدة. أقول لكَ اذهب بسلام إلى مقرّ راحتكَ.»

مريم تبكي مُنكَبَّة على الأغطية (كأنّها معاطف) الممدودة على جسد يوسف الذي عاد يبرد. ويسوع يسارع في أداء الخدمات الأخيرة، إذ إنّ تنفّسه بدأ يضعف، وغشاوة ظَهَرَت على عينيه.

«”طوبى للرجل الذي يخشى الربّ ويضع سروره كلّه في طاعته…
عدله يدوم إلى جيل فجيل. وسط المستقيمين يقف في الظلمات، وهو الرحيم والخَيِّر والعادل…
ذِكر الصدّيق إلى الأبد… عدله أزليّ. قدرته ترتفع إلى المجد…”»

«ستنال هذا المجد يا أبي. سآتي قريباً لأصحبكَ وذوي الوقار الذين سبقوكَ إلى المجد الذي ينتظركَ. فليبتهج روحكَ بكلامي.»

«”من يسترح بحضور الربّ تعالى يَعش تحت حماية إله السماء”.»
«هذا هو مقرّكَ يا أبي.»
«”لقد حَرَّرَني من شراك الصيادين ومن كلّام السوء.
بريشه يظلّلكَ وتحت أجنحته تَعتَصم.
يكون لكَ حقّه ملجأً، فلا تخشى من هول الليل…
لا يصيبكَ سوء… لأنّه يوصي ملائكته بكَ ليحفظوكَ في جميع طرقكَ.
على أيديهم يحملونك لئلا تصطدم بحجر رجلكَ.
تطأ الصلّ والأفعى، وتدوس الشبل والتنّين.
لأنّ رجاءكَ في الربّ يخبركَ بأنّه سيحرّركَ ويحميكَ.”»

«ولأنّكَ رفعتَ إليه صوتكَ سيستجيب لكَ ويكون معكَ في المحنة الأخيرة. سيمجّدكَ بعد هذه الحياة بأن يُريكَ منذ هذه الحياة مجده. وسيدخلكَ في الحياة الأخرى بالمجد الذي منذ الآن يعزّيكَ. وأكرر لكَ بأنه هو الذي سيأتي سريعاً ليحتضنكَ في عِناق إلهيّ ويأخذكَ معه على رأس كلّ الأبرار إلى حيث هي مُعَدَّة إقامة صِدِّيقي الله الأب المبارك بالنسبة لي.

اسبقني لتقول للأبرار إنّ المجد قد حلّ في الأرض، وإنّ ملكوت السماوات سيُفتَح لهم قريباً. اذهب يا أبي ولترافقكَ بركتي.»

يَرفَع يسوع صوته ليصل إلى روح يوسف الذي غاص في ضباب الموت. النهاية وشيكة. لم يعد العجوز يتنفّس إلا بصعوبة. تلاطفه مريم. يجلس يسوع على حافّة السرير ويحيط بذراعيه المحتضر الذي يخور وينطفئ بهدوء، ويجذبه إليه.

المشهد مليء بسلام وَقور. يُمَدِّد يسوع العجوز ويُعانِق مريم التي تدنو في تلك اللحظة الأخيرة من يسوع، والقلق يمزقها.

+++++

تعلّموا هذه الأمثولة، أنتم يا من تبكون، أنتم يا من تموتون، أنتم يا من تعيشون لتموتوا. اجتَهِدوا في أن تَستَحِقّوا الكلمات التي قُلتُها ليوسف، فتكون لكم السلام ساعة احتضاركم. احفظوا هذه العبرة، أنتم يا من تموتون لتستحقّوا يسوع قريباً منكم يواسيكم. حتّى ولو لم تَستَحِقّوا ذلك فتجاسَروا على مناداتي إلى جواركم. سوف آتي، ويداي ممتلئتان نِعَماً وتعزيات، وقلبي يفيض مغفرة وحُبّاً وعلى شفتيّ كلمات الصفح والتشجيع.

يَفقد الموت كلّ قسوته عندما يكون بين يديّ. ثِقوا بذلك. لا يمكنني إلغاء الموت، ولكنّني أجعله لطيفاً بالنسبة لمن يموت وهو مستسلم لي.

لقد قال المسيح ذلك، لكم جميعاً، وهو على الصليب: “ربّي، بين يديكَ أستودع روحي”. لقد قالها أثناء احتضاره وهو يُفَكِّر بنزاعاتكم وبأخطائكم وبهلعكم وبمخاوفكم وبرغباتكم في الغفران. لقد قالها وقلبه ممزَّق قبل أن تخترقه الحربة تمزُّقاً روحيّاً أكثر منه جسديّاً لكي تكون نزاعات الذين يموتون وهم يفكّرون به مُلَطَّفة بالربّ وأن ينتقل الروح من الموت إلى الحياة، من الألم إلى السعادة الأبديّة.

انشودة الانسان الاله. فالتورتا ..1/70 و 71