لا أريد أن أعتقد أن يهوذا كان مجرما، أو خائنا. الرجل يستحقّ بعضا من رحمة، قد يكون حصل عليها، وبعضا من غفران، لعلّه ينعم فيه. الربّ يتعامل مع ابن آدم بحسب دواخل قلبه قبل أفعاله.
رأيتُ في ما سبق في يهوذا سياسيّا يبحث عن مركز، ولمستُ في شخصيّته رجل المخابرات الناسج لعلاقات متشعّبة يوظّفها غالبا لمصلحة فريق سياسيّ يعمل لحسابه.
دعونا نتخيّل أن يهوذا شاء دفع يسوع دفعا إلى حيث أراده هو أن يذهب. أراد دفعه إلى حيث كان يعتقده خيرا لكليهما. إلى الكرسيّ الدنيويّ، إلى حُكم دولة إسرائيل وإعادة مجد الملوك الأوائل لها، وتجنيد جند السماء للحرب في صفوفها، وعتقها من العبوديّة للامبراطوريّة الرومانيّة. لم يفهم، أو هو لم يُرِدْ أن يفهمَ كلام يسوع المتكرّر عن سرّ الفداء، وعن مُلكه الأبديّ في غير هذا العالم. نسجتْ مخيّلته الخطّة المُحكَمة التي تُمكّنه من وضع يسوع في موضع اللاخيار، ظنّا منه أنّه يقدّم له خدمة جليلة، فيرى نفسَه ملِكا على اليهود من حيث لا يدري، ولا يريد.
أحبّ أن أرى يهوذا مفاوضا مع رؤساء اليهود على تسليم يسوع مقابل ثلاثين من الفضّة، وهو على يقين كليّ بأنّه يفاوضهم على نهايتهم هم. هو طمع بمال رؤساء الكهنة على أمل أن يرى ملاك الربّ ضاربهم بسيف النار فور اقترابهم من يسوع للإمساك به.
يُقال إن يهوذا ندم ببساطة على فعلته وقرّر إعادة الفضّة والإنتحار شنقا. أبهذه السرعة ؟ أما كان ألأولى أن يفرح بنجاح مخطّطه، ويتلذّذ بعضا من يوم بالفضّة التي وُهبَها؟
باعتقادي أن المسألة تتعدّى نطاق الندم الناتج عن يقظة الضمير. إنها صدمة نفسيّة كبرى، نتجت عن اتخاذ الأحداث مآلا لم يكن ليريده أو يتصوّره. أدركَ يهوذا هولَ ما فعل لحظة سمع السيّد يسأل الجنود عمّن يطلبون، ليسلّمهم نفسه.
ما أصاب يهوذا من هذيان وضياع بعد أن رأى المآل الذي آلت اليه خطّته خيرُ دليل على بقيّة من شعلة خير كانت تضيء زاوية من زوايا نفسه.
بقيّة الشعلة هذه، ألا يُعقلُ أن تكونَ قد نطقت بما أحبّ يسوع سماعَه منها، فقالت قبل انطفائها: أذكرني يا رب إن أتيتَ في ملكوتك؟
لا أريد أن أرى في يهوذا قاتلا، ولا خائنا. لا أريد أن أراه بائعا، بثلاثين من الفضّة، الرجلَ الذي جال معه ثلاث سنوات سمع فيها ما سمع وعاين خلالها ما عاين من مجد وخير.
لا أريدُ أن أرى يهوذا في النار. رحمة الربّ لا حدود لها.