[arabic-font]
قبل نصف قرن ونيّف..
أنا ولدٌ لم أبلغ العاشرة بعد. بُنيتي لا تحتمل المهادنة. صحّتي لا تبشّر بالخير.
لا نفعَ لي في القوّات المسلّحة. البارودة ستكون عبئا عليّ. ميلٌ مبكّرٌ الى المسامحة. عداوة متأصّلة مع الحرب. إطلاق قذيفة مدفع ستضرّ بي أكثر مما تفعل بالعدوّ.
إرتأت أمّي أن يتشدّد أبي عليّ في العلم. تنازل هو هذه المرّة عن حقّ له: (هو ربّ العائلة – هو يرتأي). وافقها الرأي في هذه. إذاً، المدرسة قدَري. ألقلم بارودتي. ألورق ذخيرتي والكتاب زادي.
في طريقي اليوميّة إلى المدرسة، ذهاباً إياباً، عليّ أن أجتازَ مسافة كرهتها. لا زلت أخافُها. دربٌ ضيّقٌ. طويلٌ. سورٌ من الإسمنت على اليمين. يستحيل تسلّقه. سورٌ من قضبان الحديد على اليسار. يؤلمُ التحديق به.
من بين القضبان تمتدّ عشرات الأيدي كلّ صباح. كلّها تلوّح لي. بعضُها تحيّيني. أخرى تريد لمسة ( حنان ) مني . بالنسبة لي، كلّها تريد الإمساك برقبتي، وجذبي الى الداخل.
هنا تجمّعت حشود من المرضى والمصابين بعاهات جسديّة أو عقليّة. كان العامّة – ولا يزالون – يطلقون على هذا المكان إسم “العصفوريّة”. كنت لا أعرف سبب هذه التسمية. لا زلت أجهلها. لا أريد ان أسأل عنها. كلّ ما أعرفه أنّي كرهتها. أرعبتني لسنوات في طفولتي. لا زالت ترعبني حتّى اليوم. كرهتها يومذاك. لا زلت أكرهها حتّى اليوم.
مهلا أخي القارئ. لا تتعجّل عليّ… ليس هذا لبّ موضوعنا…
“ألعصفوريّة” وما أدراك ما العصفوريّة. وقاك الله شرّها، ولا جعلك من نزلائها. ولا من ضحاياها.
كان مفروضاً عليّ، اذا،ً أن أجتاز هذا الدرب في اليوم مرّتين. وكنت أذوق المرّ أيضا في اليوم مرّتين. صباحا، أبدأ التفكير بتلك الأيدي الممتدّة، فور خروجي من باب بيتنا. أباشرُ الجريَ، إن بلغتُ أوّل حدود “العصفوريّة”. أحوّل جريي ركضاً، كلّما رأيت يدا تلوّح لي. أحاول ألّا أنظر إلّا في الإتّجاه المعاكس. لا أستطيع. كأن يداً سحريّة تمسك برقبتي، وتدفع بعينيّ إلى اليسار، لأرى تلك العيونَ الجاحظة، والأنوفَ المفتولة، والأفواهَ المبرومة؛ أو لأسمعَ تلك الأصوات الناطقة بكلماتٍ لا مقدَرَة لي على فكّ رموزها.
هذا المشهد اليوميّ كان بلوة صباي. هي كانت لتكونَ محمولة لولا تلك الأصوات التي لم يكن بمقدور فهمي استيعاب معانيها، وتلك الأيدي الممتدّة التي يخيّل لي أنها تريد سحبي إلى الداخل لمشاركة أصحابها نعيم الحياة.
كان ركضي يطولُ ويطول. أعبُر المسافة المحاذية لل “عصفورية” فلا أشعر. أستمرّ بالركض، وإلى أن أبلغ باب مدرستي. أتنفّسُ الصُعداء. أشكرُ ربي على نعمة الخلاص. أدخلُ إلى صفّي. معكّر المزاج. مكسور الجناح . راضيا بقدَري . ممتنّا لنجاتي.
–
أليوم، بعد مضيّ أكثر من نصف قرن.
–
أل “عصفوريّة” لا زالت مكانَها. تغيّرت الأيدي بشبيهات لها. والأصوات تبدّلت بمثيلات لها. أنا لم أتبدّل ولم أتغيّر. أخاف المرورَ في ذلك المكان. إن اضطررت إلى ذلك أراني أركضُ دون شعور منّي. ثم أتنبّه لما أفعل. أخفّف السرعة. أخشى من توجيه دعوة رسميّة لي للدّخول، وإجراء بعض الفحوص فيها…
أليوم، بعد مضيّ أكثر من نصف قرن على هذه الحوادث المأساويّة في عقل ووجدان ولد لا حول له ولا… تراودني – في مناسبات ثلاث – ألمشاعر ذاتها. ألأحاسيسُ ذاتها. ألمخاوفُ ذاتها. تلك التي كانت ترعبني.
ذكرت من الثلاث واحدة. هي مروري في نفس المكان.
لا زال علي ذكر اثنتين:
ألمناسبة الأولى: إن اتصل بي أحد أصدقائي القدامى، أو معارفي الجدد، وطلب مني أن أتصفّح بعض المنتديات التي تتناول شؤون البورصة، وأطّلع على بعض الحدثان فيها.
أراني معتذرا لحين. لا أحبّ ان تعاودني تلك الذكرى. أخاف هذه الأمكنة. أتحاشى المرور بجانبها. أخاف الدخول إليها. أخشى العقاقير التي توَزّع فيها. وصْفاتها تشعرني أذى. تذكّرني بالنكبة.
ذلك الطريق الضيّق لا يزال مزنّرا صدري. وهذا في ميسرته حتى اليوم قلبُ ولدٍ دون العاشرة. ( قلت بعض المنتديات. وبعض المواضيع. لا أحب ان أعمّم. لا أريد عداوات. ولو كان لي في هذه الأمكنة أيضا صدمات وصدمات – منها ما هو ناطق بالضاد – منها ما هو بلغات أخرى – . في هذه المصيبة يتساوى الجميع ) .
لا! ما كها تمارَسُ الأعمال…
ألمناسبة الثانية: إن وقعتُ في تجوالٍ مسائي على فضائية لبنانية تستضيف واحدا من أبطال الثامن، أو الرابع عشر من آذار. أو تستضيف اثنين في وقت واحد، شبلاً من هنا وشبلاً من هناك. أو تستضيف واحدا من سعادين المستقلّين ( جددا وقدامى ).
لا! ما كها تبنى الأوطان…
هنا أيضا يتحوّل الصندوق الأسود المواجه لي إلى سور من قضبان حديد. أرى من خلاله تلك الأيدي الممتدّة. تظهرُ أمامي تلك الأفواه المقلوبة. وتقفز إلى الشاشة تلك الأنوف المعقوفة. والأشرّ من كل هذا. تلك الألسنة التي تريد التنظير بالسياسة فتطلق صيحاتٍ، طالما جهدت في فهم شيء منها؛ فما استطعت.
وقانا الله شرّ العثرات…
في 08.12.2009.
في 08.12.2009.
[/arabic-font]