العقل القارئ في روائع الله. أو إسحق نيوتن.

” ماذا لو كان القمر يتمشّى في دورانه حول الأرض بتحركات فوضويّة غير منتظِمة سرعةً ووجهةً ؟ هل كان علم الرياضيّات سينفع العلماءَ بشيء في سعيهم لتحديد توقيت ومكان النزول عليه؟ “

عندما قال ” اسحق نيوتن ”  في العام 1700 إنّ الفرح يتملّكه عندما يجدُ نفسَه باحثا وكاشفا ومدقّقا في أسرار كَونٍ خلقه الله، لم يكن ” فولتير ” قد تجاوز السادسة من عمره، وكان هذا قبل ولادة ” كانط ” بأربع وعشرين سنة؛ وكانت أربعون سنة قد مضت على موت ” بليز باسكال “، وخمسون على موت ” رينه ديكارت”.


مع ” كانط ” و ” فولتير ” بدأت مرحلة جديدة واختلفت الصورة اختلافا جذريّا. أقفل الباحثون تلك النافذة النورانيّة التي كان الضوء يشرق منها، وانصرفوا الى أبحاثهم متّكلين فقط على عقل بشريّ ماديّ، رافض لكلّ عون روحانيّ، أو نعمة إيحاء سماويّة. وإذ بات الأمر على هذا النحو، تحق الملاحظات التالية:
حقيقة واحدة وجدها العلم ولا يستطيع نكرانها: كوكبنا وكلّ ما عليه، وكلّ ما هو حوله، وكلّ ما يتعدّاه في البعد أو الحجم أو القوة أو الغموض، يعمل بحسب نظام هو من الدقّة بحيث إنّ تعطّلا لحركة واحدة يحتّم الإنهيار الشامل.
الحقيقة هذه التي يعرفها العلم يقرّ بها العلماء، ولكنّهم لا يريدون الإعتراف باستحالة وجودها دون عقل مدبّر لها ومنظّم لدقائقها.


العلم الحديث  يرسل المركبات إلى القمر وسواه من الكواكب، ولكنّه لا يريد أن يقرّ بأنّ الفضل الأكبر بعثور الروّاد على القمر في المكان المحدد له يعود الى النظام الدقيق الذي سيّر أحدٌ ما هذه الكواكب بموجبه، وليس فقط لحسن وصوابيّة العمليّات الحسابيّة التي أجرَوها هم في مختبراتهم.
السؤال المحقّ إذاً هو: ماذا لو صعد الرواد إلى القمر فوجدوه وقد غيّر نظام سيره؟
ألا يجدر بالعقل الذي أرسل المركبة الفضائيّة أن يتامّلَ بالذكاء الكليّ الذي جعل الكون يتناغم بهذه الدقّة قبل الزهو بنفسه والترويج لمقدرته الخارقة؟
إنّ ما يبحث عنه العلماء وفيه، يكتنز في ذاته البرهان القاطع على وجود الخالق. كلّ بحث في خفايا الكون، إنّما هو بحث في خفايا عالم مخلوق، في وقت ما، وبسرّ ما يستحيل على عقلنا المحدود إدراكه.


يطيب لي أحيانا تشبيه طباع معشر العلماء، من زاوية زهوهم بأنفسهم، عندما يتطلّعون إلى ما توصلوا إليه، بالعقل العربيّ الضامر، والمشغوف بالسيّارة الحديثة التي حصل عليها، ثم يزهو ويفتخر بقدرته على حسن قيادتها، أو بأقصى الحالات، بقدرته على تفكيك أجزاء منها وإصلاحها. وهو إلى ذلك لا يتردّد في لعن صانعيها وكَيل الشتائم والإتهامات لهم، عندما تدعوه الحاجة لذلك.
هذا هو شأن صنّاع العلم الحديث مع الصانع الأكبر..!


يطيب لي أحيانا تشبيه ” إسحق نيوتن ” بين جماععة علماء الطبيعة والفيزياء والرياضيات والباحثين في شؤون المادّة، ب ” توما الأكويني ” بين اللاهوتيين والمفكّرين في الماورائيّات والباحثين في شؤون الروح.
هذا واءم بين المعرفة العقليّة والإيمانيّة واعتبرهما غير متناقضتين. أحيا أرسطو. ألبس فلسفته ثيابا مسيحيّة، وجعل منهجه صالحا للبحث في علم اللاهوت المسيحي.
ذاك واءم بين العقل الباحث وبين المخلوقات بقدرة غير ماديّة، غير مُنكِر بأنّ قدرة فائقة للطبيعة التي نراها بأعيننا  خلقت ونظّمت وأدارت.


كتب ” نيوتن ” عن هيكل سليمان مستندا الى الكتاب المقدس فقال: إنّ الملك سليمان هو الذي صمّم الهيكل ولكن بتوجيه إلهيّ.
أستقرئ من هذا أنّ الرجل اقتنع أيضا بأنّه هو نفسه عرف ما عرف من أسرار الكون فقط بتوجيه إلهيّ بلغه بطريقة ما…
إسحق نيوتن فطن إلى ما ستؤول الأمور بعده فاستبق الحدث بقوله: “تفسّر الجاذبيّة حركة الكواكب، ولكنها لا تفسّر مَن الذي يجعلُها تتحرك. فالله يحكم كلّ شيء، ويعرف كلّ شيء، وما يمكن أن يكون.”


وأخيرا لعلّه من الإفادة الإطّلاع على العبارة المنقوشة على قبر ” إسحق نيوتن ” وفيها من التعبير عن إيمانه ما يكفي، حتى ولو إنّه رفض تناول القربان المقدس في ساعة موته معتبرا هذا الفعل من طقوس الكنيسة التي شوّهت جوهر الدين:
” هنا يرقد إسحق نيوتن، الفارس، الذي بقوّة وهبها له الله في عقله، وبالمبادئ الرياضيّة التي وضعها بنفسه، اكتشف مسارات وأشكال الكواكب، ومسارات المُذنّبات ، ومدّ وجزر البحر، واختلاف أشعّة الضوء، وما لم يتصوّره عالِمٌ آخر من قبل. ودأبه وإيمانه وحكمته، في عرضه لطبيعة وقِدم وقداسة الكتاب المقدس، أظهر بفلسفته عظمة الله العظيم، وأظهر بساطة الإنجيل. كبشر نسعد بوجود شخص ما كهذا زيّن وجود الجنس البشري!