تصرخ، ولكنّ المشهد لا يتغيّر. يستمرّ باستفزازك. تحاول الهروب من ” الهُنا ” إلى ” الهُناك “. إلى الأصالة. إلى حيث المعجن المجبول طحينُه بماء الأمانة. تجد نفسك في الفراغ. تعود إلى الصراخ.
أصرخ، ما دمت لا تزعج أحدا..!
الورقة الرابعة. اليوم التاسع والعشرون من يناير العام 2018.
قرأت اليوم في ما قرأت كلاما كتبه رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط اللندنيّة عن منتدى دايفوس الاقتصادي . جاء فيه:
لو استسلم الهنود لوصايا أجدادهم وللخرافات وحروب الهويات الصغيرة، لكانت بلادهم اليوم قنبلة هائلة تهدّد البشرية. من حسن حظ الهنود أن ملهمهم المهاتما غاندي كان يدعو أصلاً إلى «فتح نوافذ البيت حتى تهب عليه رياح جميع الثقافات».
هذا ما شعرت به وأنا أستمع في القاعة الكبرى إلى رئيس وزراء الهند “ناريندرا مودي”، يلقي كلمة الافتتاح للدورة الثامنة والأربعين من المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
وبالمناسبة لا تصنع صورة الزعيم في دافوس، ولا تصنع بالتأكيد بالألاعيب التي تمارس على شاشات منطقتنا وميكروفوناتها. هنا لا يمكن الاحتماء باستثارة المشاعر الوطنية أو القومية. جمهور دافوس صعب، وعليك أن تخاطبه بمفردات القاموس الذي أرساه. على الأحلام هنا أن تكون مدعمة بالأرقام لا بالأوهام.
الأرقام… الأرقام… الأرقام.
وصورة مودي سبقته إلى دافوس. الصورة التي سبقت مودي إلى المنصة هي صورة بلاد نجحت في السنوات الأخيرة وبرغم الإرث الثقيل، في إخراج مئات الملايين من جحيم الفقر. والمسألة تتعدى إغلاق الأبواب في وجه الجوع. لقد صعدت الهند إلى القطار المتجه إلى المستقبل، وهو قطار يهتدي عملياً بروح دافوس التي تقدم دقة الخبراء على براعة الخطباء.
وختم بالحديث عن روسيا. قال:
ولأنني صحافي سياسي من الشرق الأوسط، كان لا بدّ من أن ألاحظ أن الظل الروسي ليس بارزاً في البلدة الغارقة في الثلوج. فلاديمير بوتين جاء من بيئة الـ«كي جي بي» لا من عالم الإقتصاد. أنقذ البلاد من التفكك، وأعاد لها هالة دولية كانت افتقدتها؛ لكنّه لم ينجح في إحداث نقلة في اقتصادها تتواءم مع الثورة التكنولوجية الهائلة والثورة الصناعية الرابعة وعالم الذكاء الصناعي والروبوتات. إن الأعوام المقبلة ستظهر أن حجز موقع متقدم في عالم دافوس، أفضل من حجز قاعدة عسكرية في حميميم السورية. حان للقاموس القديم أن يسلّم بهزيمته.
قرأت كلّ هذا. ختمتُ على هذه الكلمات التي تدعوك إلى السؤال عمّا عندنا. رئيس وزرائنا كان أيضا في دايفوس. لم أرَه. لم أرَ سوى الديون التي قاربت المئة مليار في بلد الأرز الذي لا يتجاوز سكّانه الأربعة ملايين.
قلت: زعماؤنا أيضا يحسنون التحدّث بلغة الأرقام.
حكّامنا زعماؤنا. هم أيضا أقوياء. الضعيف بينهم أقوى من “ناريندرا مودي” رئيس وزراء الهند. جاؤوا من مكان ما في هذا الوطن التعيس. يجمعون وهج الزعماء الى براعة الخطباء. يحدّثون كثيرا عن العزّة، والكرامة، والوطن، والتراب، والروح، والدم، والشهادة، والفداء. وعن التغيير، ونظافة الكفّ، والإصلاح، والتنمية، والتحرير. وعن احترام اتفاق الطائف، والمناصفة في الوظائف، وحقوق الطوائف، وصلاحيّات الرئاسات الثلاث.
وأكثر ما يحدّثون عنه الكهرباء والنفايات..!
يحدّثون كثيرا عن الإنسان. إنسان الأخلاق، والمحبة، والعلم، والثقافة، والبحبوحة، والحق، والمساواة.
وعن الدولة. دولة القانون، والكرامة، والسيادة، والعدل، والديمقراطيّة، والحريّة، والحداثة.
يحدثّون كثيرا عن كلّ هذا، ويهتمّون.
يهتمّون بالمناصب، والمراكز، والإفتخار، والعزّ، والنفوذ، والسلطة، والنهب، والخطابات السخيفة، والمهرجانات التافهة، والموائد العامرة، وتوظيف الأزلام، وتزوير الحقائق، والشفط ممّا وجب أن يكون مالا للشعب الجوعان..
حكّامنا أيضا أقوياء. الضعيف بينهم أقوى من “ناريندرا مودي” رئيس وزراء الهند.
الورقة الخامسة. اليوم الثلاثون من شهر يناير العام 2018.
لفتتني أخبار الوطن الصغير. وطن الأرز والنجوم. وطن التخلّف والتشوّف والإفساد. والعتمة والرجعيّة والرماد . وطن دواليب المطّاط المشتعلة. ورصاص الأفراح والأحزان. وطن الدم. والروح اليقظاء لتفتدي الزعماء….
رأيت نيرانا مشتعلة في الطرقات. ودخانا مقيتا ينشر سمومه. وفتيانا مسلّحين يُدهشون بمراجلهم. وسيّارات قُطعت عليها السُبُل فتكدّست في صفوف.
قرأت عن تسجيل مسرّب لوزير الخارجيّة جبران باسيل، أهان فيه رئيس مجلس النواب بكلام، ووصّفه بنعت لا يليق.
رأيت يافطة رُفعت في البترون المسيحيّة، فوق الطريق السريع المؤدي الى الشمال. جاء فيها: “جبران باسيل رافع لنا راسنا”.
رأيت يافطة أخرى رُفعت على طريق الجنوب الشيعيّ. جاء فيها: “نبيه برّي كرامة لبنان. هو خط أحمر”.
وكأنّما نكاية بنا، نحن الذين غُلبنا فهربنا. نكاية بنا، يستدرج أصحاب هذه العنتريّات ما لا يُحصى من حجج أيديولوجيّة وسياسيّة لتبرير مواقف، مهما تمّ تجميلها، تبقى قبليّة غير جديرة بالإحترام.
أقول إنّها مواقف قبليّة رخيصة. مدعّمة ومُبرّرة بحجج كاذبة مموّهة ومشوّهة. متوسّلة العاطفة بفعل خطابيّ بارع. مصنوعة بعقل تافه ورخيص.
نحن غُلبنا فهربنا.
خسر كمال جنبلاط. أقرّ بالخسارة، لكنّه قال: كانت تستحقّ المحاولة.
نعم، هذا هو حالنا اليوم.
ألا تستحق محاولة ثانية ؟
الورقة السادسة. اليوم الواحد والثلاثون من يناير 2018.
قرأت أنّ الرئيس الألماني فرانك شتاينماير كان في بيروت. لا شكّ بأنّه سأل عمّا يجري في شوارعها، وأُخبر بأنّ وزير خارجيّتنا شتم رئيس نوّابنا. وأنّ أنصار الديمقراطيّة التوافقيّة يحتجون بأسلوب شرقيّ هو توأم فنّ الخطابة الجوفاء.
لا أشكّ في أنّ السيّد شتاينماير هزّ رأسه ودندن: مفهوم مفهوم.. إنّها دبلوماسيّة الشرق الدافئ الحنون.
حزنت لما نحن فيه.
قلت أهرب من المواقف القبليّة والطائفيّة . صرت لا أحتملها. أهرب مجددا إلى مَن رأى ما لم يره سواه، ومن كتب كما لم يكتبوا هم. فوقعت على كلام يُفرّح القلب ويُحزّنه في آن:
“الديمقراطيّة لا تتكوّن دون أخلاق وإعلام صادق ورأي عام سليم… وإلا تصبح خرافة. وان هي اقتصرت على الشكل والمفهوم السطحي دون الجوهر تؤول إلى فوضى وتكون ضد التطور. والقيادة الجديدة القادرة على بناء استقلال لبنان الحقيقي ليست قيادة إسلامية ولا هي قيادة مسيحية. إنها قيادة وطنية لبنانية، علاقتها هي بشعب لبنان الواحد، وبلبنان الشعب الواحد. وخطيئتنا الكبرى هي أننا نتطلّع دائمًا إلى الماضي الذي جعلنا منه صنمًا في هيكل الأصنام الذي نتعبّد.”
هكذا تكلّم كمال جنبلاط في العام 1976.
وعلى مَن تتلو مزاميرك يا داود؟
ما عدنا نملك سوى أن نحزن..!
إحزن معي يا صديقي..!