وكأني لمحت في عينيها شِبه سؤال: ولكن، يا أنتَ.. مَن أنتَ؟
أللاشيء، واللاأحد. لم أهجر أصدقائي فقط، بل أحبّتي أيضا. هجرتُهم وعدتُ الى ماضيّ الفقير، ولم يبقَ لي إلّا القلم. وقضيّتان. هما الإنسان والسماء. أحببتهما، وأكتب عنهما، لأنّي لست أجهلُهما.
ألِحّي في سؤالك، أبُح لك بسرّي. سيّدتي..
أنا لا أحد، ولا شيء. لم أقترفْ إلّا القليلَ من الجرائم. أقلّ بكثير ممّا تظنّين. إقترفتُ بعضَها بقلمي، وبعضَها بلساني. إعترضتُ على قذاراتٍ كثيرة.. بالصراخ فقط.. ولم أقوَ على تغيير الكثير.
والآن..!
سُلبتُ أسلحتي. لم يبقَ لي إلّا قلمي. أصرخُ به ألمي… أصونُ به بعضاً من شرفٍ، وأحزنُ به على الإنسان، وأشفقُ عليه مع الإله. وأدافعُ به عن نفسي، وقليلا عن أولادي. وكثيرا عن حبيبتيّ الصغيرتين..!
لم يبقَ إلّا قلمي، أصرخُ به ألمي. وأجرحُ به دودَ الضمير. في جثّةٍ مَدفونةٍ باللهيب.. مَكفونةٍ بالحرير..!
ما عدتُ أطيقُ تكّة الساعة في الجدار. في غرفة الجلوس، أو في محطة القطار..!
ولا رنّة الهاتف، ولا لسعة “الواتسآب”، ولا لدغة اللسان.
أتوقُ إلى صوتٍ يناديني من تحت شُبّاكي. يناديني بإسمي. كما حال زمان..!
ما عدتُ أحبّ سماعَ الإذاعات، ولا الإصغاءَ إلى الخرافات. وأخشى الأفاعي، ولا أحبّ التفاحَ الأحمر.
ما عدتُ عنيدا. صرتُ مطواعاً، ولكن فقط لفهمي.
أحبّ جدا الفهمَ المقدّس، وأحبّ أن أقرأ معه كلّ يوم.
وأحبّ كثيرا الروحَ القدس، وأحبّ أن أحادثَه كلّ يوم. كلّ يوم.
وأنا، ما أنا؟
أللاأحد. أللاشيء. لا أحبّ الأرصفة، ولا السيرَ عليها.
ليس لي شُلّة. ولا أحبّ الزفّات، ولا الجنازات، ولا المشيَ فيها.
لا أحضرُ الحفلات، وأمقتُ الصالات، ولا أجيدُ سردَ النكات. ولا أنفضُ الغبارَ عن شَعري، ولا أستحمُّ إلا بعطر أمّي.
وغدا.. قبل أن تمضي يا أمي إلى بيت أبي الجديد، إئتمني أختي على سرّ عطرِك.. ووصّيها أن ترشّه عليّ.
أنا اللاأحد. أللاشيء. خاويتُ القلم. لا أكرهُ.. ولا أحقدُ.. ولا أحبّ إلّا بالحبرِ الأسود. على خدّ نسمة سمراء.
وأهوى أن أهوى.. وأن أنقّطَ حروفَ السماء.
عفوك يا سيّدتي. وهل فطنتِ لِما ينضحُ به الإناء؟